الجمعة، 14 أغسطس 2015

إيقاع النثر


مع شيوع كتابة النصوص النثرية في المشهد الثقافي العربي أصبح لزاما على الدارسين بحث هذه الظاهرة ، ودراسة الأساليب الفنية والجمالية التي تتميز بها أو التي ترتقي بها.

إن توجه الشعراء العرب باتجاه النص الشعري النثري ، لا بد أن يطور أنظمة جمالية تحل محل انضباط الشعر التقليدي ، وما من شك في أن الإيقاع هو العنصر الهيكلي الرئيس في كل الفنون ، أكانت زمانية أم مكانية، وليست فنون اللغة بدعا من تلك الفنون .

ليس الإيقاع عملية تكرار منتظمة لعنصر أو عناصر معينة على مُدد متساوية من الزمان أو المكان، فهذا تبسيط مخل للتعريف ، فالتكرار وحده لا يكون إيقاعا، تصور مثلا صوت تكتكات الساعة ، إننا بالكاد ننتبه اليها، واعتيادنا عليها يجعل ادمغتنا لا تدخلها في تفسيرها للعالم المحيط بنا ، على الرغم من إنها تكرار في غاية الانضباط لصوت واحد محدد. ومن ناحية أخرى يقود التكرار الى تخيل سلسلة لا متناهية من التوقعات لأننا مع كل ضربة نتوقع الضربة التالية ونعرف موقعها بالضبط، وهذه السلسلة من التوقعات تؤدي بنا الى تصور نظام لا متناه من الضربات مما يحملنا على تجاهل النظام بكامله.

صحيح ان التكرار هو الركن الأساسي لبناء نظام ايقاعي لكنه وحده لا يبني ذلك النظام ، فالإيقاع يقوم على توقع المتلقي للتكرار التالي ، وتلبية هذا التوقع بشرط أن تكون لهذه السلسلة من التوقعات نهاية واضحة، أي أن الفنان يقوم بتلبية توقع المتلقي لعدد من التكرارات ، وفي مرحلة أخرى يقوم بتخييب توقعه بإيراد عنصر غير العنصر المتوقع ، وقد يكون هذا العنصر الجديد بداية لسلسلة أخرى من التوقعات والخيبة وهكذا.

يمكننا أن نلمس هذا الفهم للإيقاع بوضوح في الموسيقى على أساس انها الفن الأكثر تطلبا للإيقاع ، وأكثرها وضوحا من هذه الناحية ، فكل قطعة موسيقية أو أغنية تتألف من مجموعة من التكرارات المتداخلة ، لكن هذه التكرارات كلها تتجه الى النهاية حيث يقوم واضع اللحن بإدخال لازمة مختلفة تماما عن التكرارات السابقة مما يقود الى ايقاف سلسلة التوقعات والإشعار بالنهاية.

في الفنون التشكيلية يمكن أن نلاحظ سريان هذا الفهم أيضا، لكن بشكل أقل وضوحا ، الا انه يكون واضحا في فن التصميم ، يمكننا أن نشير مثلا الى النقوش الموجودة على الألبسة النسائية، فالنقش على قطعة القماش يتكون من تكرار لا متناه لعناصره لكن مصمم الأزياء ، لابد أن يضع نهاية لذلك التكرار والإشعار بالنهاية فيلجأ الى وضع قماش من لون آخر أسفل الثوب أو يغير من اتجاه التكرار نفسه أو أية طريقة أخرى لإيقاف سلسلة التوقعات.

في الشعر التقليدي العمودي يتم بناء الوزن الذي هو شكل من اشكال الإيقاع من تكرار الأصوات المتحركة والساكنة  بنظام منضبط للغاية ، ثم تأتي القافية بتركيب صوتي مختلف لكسر سلسلة التوقعات ، غير أن الشاعر التقليدي يواجه مشكلة فنية كبيرة في انهاء قصيدته ، لأن القصيدة عمليا ستتألف من تكرار البيت الواحد تكرارا يحتمل اللاتناهي ، مما يضطره الى البحث عن طرق أخرى غير الوزن للإشعار بالنهاية، وغالبا ما يعتمد شاعر القريض على المعنى اذ يبني جملة تقول للقارئ (قف لقد انتهت القصيدة).

أما شعر التفعيلة فقد أعطى الشاعر إمكانات جديدة كثيرة لإيقاف تدفق تكرارات الإيقاع، فبإمكانه ان يعتمد على القافية اذ يأتي بنظام تقفية لا يكون تكرارا للأنظمة السابقة. أو يمكنه الاعتماد على طول السطر اذ يأتي في نهاية قصيدته بسطر أو عدة أسطر تختلف أطوالها اختلافا بينا عما سبق ، وغير ذلك..........

أما في النثر فإن الإيقاع نظام معقد ، ولكنه موجود ، والكاتب الذي لا يمتلك احساسا بإيقاع كتابته ، لا يمكن أن يكون كاتبا كبيرا.

يعتمد إيقاع النثر على عدد من العناصر القابلة للتكرار، لعل أبرزها أطوال الجمل وعلامات الترقيم والطبيعة الخطابية للجمل من حيث كونها اثبات أو نفي أو استفهام. لكن لا يجب أن يغيب عن أذهاننا فكرة انهاء التوقع السالفة الذكر.

يعد الاعتماد على أطوال الجمل واحد من أهم أساليب بناء الإيقاع في النثر، فضلا عن توظيفه لأداء بعض من جوانب المعنى.فمن التكنيكات الشائعة ذلك الذي يمكن أن نسميه تكنيك الإقفال، ويسمى بالإنكليزية (Capping) ويقوم على ان يأتي الكاتب بعدد من الجمل الطويلة نسبيا ، ثم تأتي جملة واحدة قصيرة بشكل ملحوظ بالنسبة للجمل السابقة ، هذه الجملة طبعا ستشعر بانتهاء تكرار الطول ولذلك فهي غالبا نهاية أيضا للفقرة التي وضعت فيها، وايذان ببدء سلسلة جديدة من التكرارات.

ولعل كتاب النصوص النثرية ذات الطابع الشعري هم أكثر كتاب النثر حاجة للإيقاع ، فبتنازلهم عن الوزن التقليدي للشعر ، يكون عليهم ايجاد البدائل الجديرة باحتلال المكانة التي كان يشغلها الوزن، وقد نجحوا في تطوير عدد من التكنيكات المبتكرة في هذا السياق ، غير أن مشكلتها أنها غير موجودة مسبقا في ذهن القارئ مثلما كان حال الوزن ، ولذا فهي تتطلب قارئا أكثر قدرة على تلمس مكامن الإيقاع واكتشاف أسرار بنائه ، ولنأخذ مثلا (رسالة الى أوروك) للشاعرة العراقية آمنة عبد العزيز:

 

يحدّثني بانا ..

وانا من بعده

الانا لاتكون ..

يستعرض تاريخه

واسفاره .........

ومحطاته المنهكة

بالنساء .........

والوجوه الخمرية

والبيض والسمراء

واحاديث لا تفضي

الا اليه ..

وصفحاته الخالية

من الاسماء .........

ورقم امراة ......

التقاها هنا ..

وامراة صادفها  هنا ك......

يسترسل بتفتيت ......

بنياني ..

واصمت وبين دهشتي.......

تراتيل ازمنتي ..

غيابه يطفىء   

ذاكرتي الماضي

وحاضره نار

حروفي .....

اريد ان اعبر

قلاع الشوق

العاليات ..

بلهفة امراة

العصور ..

لا تستفز سباتي

بعد ايقاضه ..

قوافل حزني

التائهة ..

لا تدعها تظل

دروب فرحك

هزّ بيد حنانك

مهد طفولتي .......

تدلّت ثمار نضوجي

بزهو بين راحات

القبل ..

لا تعبث بطفولتي

الخجلى الا منك

اوقف صراخي الاول

الا اليك ..

 ( ومثل فزّة طفل روحي

تفز لو سمعت بطرواك )

مرّر براحتيك

فوق ليلي .......

ساطلعك على غابات

الحناء ..

واين يكون

ضوع عطري

ادمنتك بين الحنايا

قصيدة ..

 (وروحي حلاوة ليل

محروكة حرك روحي)

هناك في مملكتي

نيسان ..

تختبىء الضفائر

بين القصب

والبردي ..

ورائحة المسك

بين التنهدات ..

وعطر ارض

العنبر ..

(ورد للناصرية ردود)

ارجع الى مكان

كان الهوى والعشق

الازلي ..

والشوق المقيد

بتاريخ الجمر

 ( ورديت وجدامي تخط )

تخط اشتياق

لا تقوى على حمله

اجزائي .......

 ( نهد حيلي بيك)

ملاك اخطأ طريقه

الى الارض ..

نزل بيتك الآمن

ساقية الروح قلقي

والسراب المؤجل

 (وياحريمة انباكت الجلمات

من فوك الشفايف)

جفت الشفاه

عطشى لذا الثغر

المحرّم ..

نعم لعذابات اانسها

ولا لفراق وجفاء

 آمنه ..

 انت شيفرة العمر

 فكّ بي رموزك ..

 

ان التكنيك الأبرز الذي يمكن ملاحظته من النظرة الأولى هو توظيف الشاعرة الفضاء الطباعي وسيلة لبناء نظام ايقاعي مكاني ينتظم النص كاملا، فالأسطر الطويلة نسبيا ترد على ابعاد متساوية من بعضها ، بحيث تدركها العين من النظرة الأولى.، لكنها تسرع  هذا التكرار حين تصل نهاية نصها ليكون اشعارا بالنهاية. مع ملاحظة وعي الشاعرة بتوظيف الإيقاع المكاني فنهاية السطر ليست بالضرورة نهاية الجملة أو موضعا لعلامة ترقيم انما هي نهاية عندسية مكانية.

في النص ايضا تكرار مقاطع من أغنيات فولكلورية، وعددها ستة مقاطع وجميعها موزون بالعروض التقليدي فالثلاثة الأولى من الهزج ، والثلاثة الأخيرة من الرمل ، هناك اذن ايقاع تكون من تكرار المقطع القولكلوري وآخر تكون من تكرار الوزن العروضي للمقطع.

ثمة تكنيك آخر ابتكرته الشاعرة هنا ، فمقاطع النص الواقعة بين كل مقطعين قولكلوريين يمثل كل منها وحدة موضوعية مستقلة وما ان يأتي المقطع الفولكلوري الآخر حتى يأتينا مقطع يدخلنا في وحدة موضوعية جديدة ، والجميل هنا هو تكرار الاختلاف ، فبعد كل مقطع فولكلوري يتوقع القارئ انه سينتقل الى معنى جديد وتلبي الشاعرة توقعه.

وفي داخل كل مقطع تصنع الشاعرة ايقاعا خاصا، ففي المقطع الواقع بين  (وروحي حلاوة ليل محروكة حرك روحي) و (ورد للناصرية اردود) يمكننا ملاحظة النظام الإيقاعي المكون من المعطوفات المفردة و (الواو) العاطفة، وفي أي مقطع آخر سنجد نظاما ايقاعيا ما ينتظمه.

 

0 التعليقات:

إرسال تعليق