الجمعة، 14 أغسطس 2015

زاوية النظر والبداية في القصة القصيرة

زاوية النظر واحدة من القضايا المعقدة في القصة القصيرة ، لكنها أيضا من أهم التكنيكات التي تعطي القصة سحرها وجمالها.
نقصد بزاوية النظر موقع الراوي (السارد) الذي يقص القصة ، الذي قد يكون الشخصية الرئيسة أو شاهد على الحدث، وقد يقص القصة بضمير المتكلم أو الغائب أو- وهذا نادر – بضمير المخاطب ، والمعلومات التي سيقدمها الراوي في القصة يجب أن تكون متوافقة مع موقعه من الحدث.
في القصص القديمة كان الكتاب يلجؤون إلى ما نعرفه اليوم بالراوي العليم، الراوي الذي يستطيع أن يعرف دواخل كل شخصيات  القصة ، لكن هذا أسلوب بدائي يجعل القصة قريبة من الحكاية الشعبية ويضعف قيمتها الفنية كثيرا ، اذ يكفي أن نسأل عن مكان وجود هذا الراوي وكيف استطاع قراءة أفكار أكثر من شخصية واحدة لتتهافت القصة. ولا ننكر ان بعض الكتاب مازال يستخدم هذا الأسلوب بين الحين والآخر ربما لمبررات فنية يرمي اليها القاص، هذه مثلا بداية قصة (الشكوى ممنوعة) للقاص حسب الله يحيى:


((وقفت أمامه حائرة، لم تكن تريد أن تبوح له بحقيقة ما حدث.. خشية أن تقود نفسها إلى النار، وتلحقه بها.‏
أجابت.. أنها بخير، وأن المكان الذي نقلت إليه جيد ونافع لها.. غير أنه لاحظها وهي تخشى نظراته، تهرب منها.. كأنما كانت تخشى أن يكتشف كذبها عليه...‏))


حين نقرأ السطر الأول نظن أن القصة مكتوبة من زاوية نظر البطلة ، من خلال العبارة (لم تكن تريد أن تبوح له .....) لأن هذا حديث عن تفكير داخلي في عقل الشخصية ونفترض أن كل ما سيأتي يمثل زاوية نظرها ، غير أننا نفاجأ في الفقرة التالية بالعبارة (غير أنه لاحظها وهي تخشى نظراته، تهرب منها.. كأنما كانت تخشى أن يكتشف كذبها عليه) ففيها وصف للطريقة التي كان يفكر بها الشخص الثاني في داخله ونظرته الى البطلة، طبعا لا يمكن أن يكون هناك راوٍ يستطيع قراءة أفكار الناس جميعا.
فبداية هذه القصة أخفقت في إدخال القارئ عالمها من زاوية نظر محددة، ولذلك سيكون دوره متلقيا سلبيا لأن الراوي سيتكفل بشرح كل أفكار الشخصيات ولن يكون للقارئ دور في الحكم أو التدخل.
عندما يكون السرد باستخدام ضمير المتكلم أو المخاطب تكون الأمور أسهل لأن الضمير سيحكم معارف الراوي ، ومثالي هنا بداية قصة (الهولندي الطائر) للقاص العراقي علي عبد الأمير صالح:
((أنا رجل عاطفي، أهوى ثلاثاً: الموسيقى، الآيس كريم، والنساء..‏
ولأنني أعشق الموسيقى فأنا أُسمع مرضاي ألحاناً عذبةً، بينما هم ينتظرون دورهم في الصالة الواسعة.‏
الواقع، أن أغلب مرضاي من الجنس الناعم؛ فتيات بين السادسة عشرة والخامسة والعشرين، وسيدات في سني زواجهن الأولى..‏))


الراوي هنا هو نفسه الشخصية الرئيسة في القصة ، طبيب أسنان مصاب بالفتيشية ، وهي عقدة نفسية تجعل المصاب بها يتعلق بأشياء الحبيب كالملابس والأحذية أكثر من الحبيب نفسه. في القصة يرد حديث عن أكثر من شخصية نسائية لكننا نراهن جميعا كما يراهن الراوي بطل القصة ، مما يمكننا من الحكم عليه وعلى سلوكه المنحرف وهنا تكمن متعة القصة التي يلتزم فيها القاص بفكرة زاوية النظر.
وبالطبع يمكن أن تكتب القصة من زاوية نظر الشخصية الرئيسة ولكن باستخدام ضمير الغائب ، كما في (كاردينيا) للقاصة العراقية إيناس البدران:


((هكذا وجدت نفسها موزعة بين هنا وهناك ، دون ان يكون لمشاعرها دور يذكر ، تتابع الوجوه النحيلة ذات السواعد المعروقة وهي تمارس طقسها الأزلي المقدس في وصل شرايين الحياة ومد جسورها كجنود مجهولة بأنفاس مقطوعة وصبر))


هذه البداية (وجدت نفسها موزعة ......) حكمت الراوي بأن لا ينظر الى الحدث الا من زاوية نظر البطلة ، وهي لا تختلف شيئا عن الصيغة (هكذا وجدت نفسي موزعة بين هنا وهناك.....). والشخصيات التي تظهر في القصة فيما بعد انما هي موجودة في عقل شخصية البطلة:


((وتذكرت ما أخبرها به والدها يومها من أن هذه النبتة دائمة الخضرة تدخر ازهارها اللؤلؤية لتظهرها مرة واحدة في العام .))


قد لا يكون أبوها مرهفا الى هذا الحد ، وقد لا تكون هذه مقولة مهمة بالنسبة اليه ، لكنها طالعتنا من زاوية نظر هذه المرأة التي هي شخصية القصة الرئيسة.


بعض كتاب القصة يبدعون بدايات معقدة لتحديد زاوية النظر تضفي على القصة جمالا وآفاقا واسعة للتأويل ، خذ مثلا قصة (اليهودي) للقاص الروسي (ايفان تورجينيف):


((احك لنا شيئا يا سيادة العقيد . قلنا فى النهاية لنيكولاى إليتش .
ابتسم العقيد وأطلق دفقة دخان من بين شواربه ، ومر بيده على شعره الأشيب ثم سرح ببصره نحونا .
كنا نحب نيكولاى إليتش ، ونحترمه كثيرا لطيبته وحكمته ، ورفقه بإخواننا الشباب . كان طويل القامة ، عريض الكتفين ممتلئ ، ووجهه الأسمر " واحد من أجمل الوجوه الروسية "** ، وصراحته ونظرته الذكية وابتسامته الخاطفة وصوته الجهورى المفعم بالرجولة ـ كل شئ فيه كان يجذبنا ويثير إعجابنا .))

أحداث القصة هنا تروى بروايتين متداخلتين، فالراوي يصف لنا راويا آخر ويحاول حملنا على تصديقه من خلال الصفات التي يسندها اليه ، غير أن القارئ يجب أن يشعر ان أحداث القصة جاءت بعد أن أجرى الراوي من زاوية نظره تعديلات معينة على زاوية نظر الراوي الأول (نيكولاي).

0 التعليقات:

إرسال تعليق