السبت، 29 أغسطس 2015

حوار ساخن.. قصة ونقد

نشرت هذه  القصة في جريدة الزمان العراقية ونشرت دراستي لها في الجريدة نفسها بعد خمسة أيام


حوار ساخن
خسين عبد الخضر

ثم . . أنت قد لا تدركين ما اقوله لك . لا شك أنك عشت حياة مثالية ، ربما تعتبرينها أنت عادية ، فقد عشت في كنف أبوين حانيين يخافان عليك ، يتعهدانك إذا مرضت ، وربما يقصان عليك قصص قبل النوم ، لا شك أنك كنت تمتلكين سريرك الخاص ، وربما غرفتك الخاصة ، وترتدين ملابسك الخاصة ، لذلك أنا اشك في أنك تستطيعين مجرد تصور ما سوف احكيه لك . اقول لك أن الحياة ، للأسف ، لم تكن دوما كما تتصورين ، علي الأقل نمط حياتي ومن يشاكلني يعتبر غريبا عنك . لكن ، بما أنك تصرين علي معرفة سبب انكسار الحزن في عينيّ ،ّ فأنا مضطر إلي الاستجابة لك .

كانت المشكلة في أن أبي مازال حيا ، فلو أنه كان ميتا ، لم تكن الأمور لتأخذ هذا النحو من السوء ، لكنه كان حيا ، وقد عني ذلك أنني قد حرمت سلفا من حق التمتع برعاية أب حي واهتمامه . لم نكن فقراء ، ولكننا بحاجة ماسة للمال ، وعلي الدوام . ولأنني الطفل المرهف ، وربما كنت اتمتع بنوع من الحصانة يجعل أمي مطمئنة وهي تبعث بي إلي السوق ، فقد تركت حق الاستمتاع بلعب الطفولة لبقية أخوتي ، لم اكن اكبرهم سنا ، إذا كان هذا ما يرد في ذهنك ، إلا أنني كنت الاكثر نشاطا ، واستعدادا للتضحية بمشاهدة افلام كارتون .

كنت افتح عينيّ كل صباح لأري صينية ( الطاطلي ) في زاوية الغرفة ترمقني بخبث . تخلصني أمي من حالة الكسل بغسل وجهي ، وترديد بعض كلمات التشجيع عليّ ، كما لو أنها تهمس بتعويذة سحرية ، فتجبرني علي النهوض ، وتناول الإفطار . هل سبق لك أن غسلت وجهك وأنت علي فراشك ؟ بعد لحظات قصيرة ، اشرب فيها استكان الشاي ، واقرض نصف ( صمونة ) تكون والدتي قد وضعت الصينية علي رأسي ، وتطلقني إلي الشارع ، فيما لا يزال أبي وأخوتي يغطون في نومهم . يداعب اجفاني الصحو ما أن تلمس قدماي اسفلت الشارع . اسير حتي السوق ، وأنا اهتف بلا هدف محدد : " طاطلي ، طاطلي " . وفي مكان محدد ، اخترته بعفوية مطلقة ، انزل الصينية من علي رأسي ، وأقف . استمر في النداء علي بضاعتي . يشتري مني بعض الناس . يكتفي بعضهم بقطعة واحدة ، وقد لا يكتفي آخرون بأكثر من قطعة . كنت اشعر بالفرح وأنا اسمع صليل قطع النقود المعدنية في جيبي ، لكن ذلك لا يستمر لفترة طويلة . بعد ساعة أو اكثر بقليل ، يتجاهلني السوق ، ولا يعود أحد يشعر بوجودي ، اشعر أنني اقذف صوتي في الفراغ . انظر إلي صينيتي ، فأري أنها مازالت مليئة بكرات الطاطلي الملتمعة تحت وهج الشمس ، وهي ترشح الشيرة بكسل إلي قاعدة الصينية . هل تعتقدين أني كنت استطيع مد يدي إلي واحدة ؟ أبدا . كانت أمي تعدها جيدا ، ولن يفلح أي عذر في حال اكتشاف فقدان واحدة .

استمرت في نبش الأرض برجلها ، ومتابعتي باهتمام ، وكأنها تتسلي بسماع حكاية من حكايات جدتها . كان بريق الذهول لا ينفك يتراقص في عينيها ، ويغازل اجفانها فرح بريء . إنها لا تريد أن تقاطعني حتي بسؤال ، فتضطرني إلي توهم اسئلة والاجابة عليها . سحبت سيجارة أخري من العلبة ، اشعلتها من طرف السيجارة السابقة ، وأكملت :

ومع ذلك ، فقد كنت اخترع تسليتي الخاصة في كل يوم ، أمارس بعض الالعاب وأنا اقبع في مكاني ، أطارد الوجوه المتشابهة مثلا ، أو احاول تقدير اعمار بعض الناس الذين يلفتون انتباهي ، وربما أحاول في بعض الأحيان تخمين المهن ، فوجوه الناس ، كما كنت اعتقد ، تكشف عن مهنهم ، وإذا ما كانوا قساة أم طيبون . عندما يقترب وقت الضحي ، يكون الوقوف في مكاني غير مجد . احمل صينيتي وأدور بها في السوق رافعا ندائي ، وربما اتجاوز السوق إلي شوارع أخري مكتضة بالناس ، فأبيع بعضا من بضاعتي . ما لا أدركه هو سر فرحي عندما يشتري مني الآخرون مع أن فلسا واحدا لن ينزل في جيبي ، فأمي دائما ما تبدأ بأخذ المال ، ثم تحسب القطع المتبقية ، لمعرفة ما إذا كنت قد اكلت منها واحدة أو أنني صرفت بعض المال علي ملذاتي الخاصة . قد يكون من الطبيعي أن يحدث ذلك لو أن الآخرين احتفظوا بألسنتهم في أفواههم ، لكن هناك بعض الناس يجعلون الأمر يبدو قاسيا جدا ، فربما كنت استطيع تجاوزالأمر بسبب طفولتي ، أو لأنني احظي ببعض الرفاق في السوق ، لكن تلك الكلمات التي اسمعها ، وتكون موجهة لي شخصيا ، تفاقم من شعوري بأنني اعيش في المكان الخطأ . اعرف أنك لم تختبري هذا الشعور ولو لمرة واحدة ، بل ربما كنت تظنين الآن بأن الطاطلي هو غير الداطلي مع أنهما شيء واحد ، لكن اهلك كانوا يمنعونك من تناوله خوفا عليك ، ويجلبون لك حلوي معلبة ، وهذا كما ترين ، لا يشعرني نحوك بأية ضغينة . قلت أن بعض الناس كانوا يجعلون الأمر أسوأ عندما يقولون : " يالجمال هذا الطفل ، وقسوة قلب أمه ، ألا تخاف علي طفل جميل كهذا من العمل في السوق . " وقد تقول لي أخري : " لو كنت ولدي لما تركتك تغادر البيت . " عبارات من هذا القبيل كنت اسمعها دائما ، فقد كنت جميلا بشكل يلفت النظر .

بشكل لا اتمكن من ادراكه حضرت العبارة في رأسي ، وأرادت أن تفلت بنفسها إلي سمعها ، فتوقفت . دفعة واحدة تدفقت الذكري من جديد ، وأخذ الجرح في اعماق روحي ينز بدم طازج . تطوحت روحي في داخلي مثل جريح ينزف كل دمائه علي الأرض ، وتصاعد في رأسي لحن لكمان حزين . مددت يدا مرتجفة ، تناولت كأسا ، ورشفت علي مهل ، رشفات قصيرة متتابعة ، احسست بها ، وهي تنزل إلي أحشائي . لكنها بقيت مخلصة لصمتها ، الذهول يشد ملامحها إلي بعضها ، بدت مهتمة تماما ، إلا أنني اشك في أنها كانت متعاطفة معي اكثر من تعاطفها مع شخص في قصة ، ولست اعرف إذا ما كانت تدرك علي نحو واضح حرارة الألم الذي يشعر به طفل مهمل ، أو رجل يتذكر طفولته المهملة ، لكن ذلك بدي لي في هذه اللحظة غير مهم ، لابد أن يموت ذلك الجريح النازف ويستريح ، سأطرد صوت الكمان من رأسي ، واتركه يموت بهدوء ، قبل أن تنزل دموعي المتأرجحة .

ربما كنت تظنين أنك استمعت إلي أسوأ ما يمكن أن يحدث في حياة طفل حتي الآن . يكفي أن تتصوري حرمانه من اللعب كي تتفجر اقصي طاقتك علي الغضب . أليس جريمة سيدتي أن يحرم طفل من اللعب ؟ حسنا ، إلا أنه في هذه الحياة يمكنك توقع حدوث الأسوأ دائما ، كما يمكنك توقع الأفضل ، لكن ما حصل معي هو الأسوأ . لقد اصطدمت ذات يوم ، وفي طريق عودتي إلي البيت ، بشخص ساه ، فوقع ما تبقي من الطاطلي علي الأرض . مضي الرجل في سبيله ، وتركني أواجه المصيبة وحدي . غزت صور العقوبات المختلفة رأسي ، فسري الذعر في نفسي ، ومن اجل هذا الخطأ تخيلت أمي وهي تمارس جميع عقوباتها عليّ بالتسلسل . جلست حائرا ، وضعت يدي علي رأسي ، يمكنك أن تلاحظي أنني افعل ذلك حتي الآن عندما تصادفني مشكلة . قطع الطاطلي تلوثت ، لا يمكنني بيعها الآن ، أو العودة بها إلي البيت ، العقوبة تنتظرني ، سوف أضرب وأهان ، سوف تنقض أمي بعضة قوية علي ذراعي ، سوف تصفعني ، وتشتمني ، ولن تتوقف حتي تتعب . هل سبق لك أن عضتك أمك ؟ لا ، أنا امزح ، أمك امرأة عاقلة ، ثم لماذا تعضك ، وأنت لم تسقطي الطاطلي علي الأرض ؟ .

تمنيت لو أنها ابتسمت للنكتة ، لو أنها قامت بأي ردة فعل ، لكنت وجدت فرصة لتغيير الموضوع ، ولم اضطر لسماع انين الرجل الجريح ، غير أنها لم تمنحني أية فرصة للتراجع .

ورغم أن ذلك قد وقع فعلا ، وبشكل اقسي مما تخيلته ، إذ يمكنني أن أريك أثر العضة علي ذراعي الآن ، لكن شرودي منعني من الالتفات إلي الحدث الأسواء . لقد كان هناك مصور صادف مروره لحظة جلوسي علي الرصيف أضع يدا علي رأسي ، فيما قطع الطاطلي علي الأرض ، والصينية في اليد الأخري فارغة ، اعجبه المشهد فالتقط صورة لي دون أن أدري ، ولم اكن لأدري لولا أنني زرت معرضا قبل أيام ، فوجدتها هناك . توقفت طويلا أمام الصورة . نظرت إلي الطفل الحائر ، وتسللت إلي ذاكرتي كل أحداث ذلك اليوم . وددت أن اصرخ ، لكنني بكيت فقط . نسيت أنني اقف في معرض مكتظ بالزائرين ، فقدت كل احساس بالآخرين ، فارتفع صوت نشيجي ، ورحت العن أيام طفولتي . إنني طفل جميل جدا ، ولو كنت ابن غير هؤلاء الناس لعشت حياة أخري ، ونعمت بالرفاهية مثلك ، ربما حظيت ، علي الأقل بأب يتعب من اجلي وأم تخاف عليّ من نظرات الناس ، فلا تسمح لي بالخروج إلي الشارع . هل تعرفين انك محظوظة جدا بأبويك ؟ بعد تمخض دموعي عن ولادة حزن قديم ، تغلغل عميقا في نفسي ، انتابني شعور بالغضب . كيف سمح هذا المصور اللعين لنفسه بالتلاعب بصورتي ، ووضع طفلا آخر في محلي ، ربما كان ابنه هو الذي لم يعرف مرارة حمل صينية الطاطلي والدوران بها في الصباح ؟ قصدته وصرخت بوجهه : " أنت مصور مزيف . كيف سمحت لنفسك بتشويه صورتي ؟ " وقبل أن تتحرر الكذبة من فمه ، وجهت ضربتي إلي عينه مباشرة ، وفجرت دمه . هل تظنين أن القاضي سيبرؤني ويحاكمه هو لتزييفه صورتي ؟ هل تعتقدين أن الناس يمكن أن يكونوا عادلين ولو لمرة واحدة ؟ مالك لا تتفوهين ولو بكلمة ؟ لم أنت صامتة ؟ أنا لا اقص عليك حكاية قبل النوم ، قولي شيئا . استمرت معتصمة بصمتها ، ربما كانت متعاطفة معي في داخلها ، ربما كانت ستقول اشياء كثيرة لو أنها تمكنت من الكلام ، لكنها اكتفت بالنظر إليّ فقط . لم تقل ولو كلمة واحدة لتطفئ القليل من الغضب المتوقد في صدري . وفي لحظة جنون حملتها في كفي ، وصرخت فيها أن تتكلم ، لكنها راحت تقاوم قبضتي بدفعات ضعيفة من أرجلها الخشنة . اطبقت قبضتي عليها اكثر ، فشعرت باحشائها تفيض في كفي .
 
 
 

سحر النهاية في القصة القصيرة

د.ثائر العذاري

في عددها الصادر في 25/8/2009 نشرت جريدة الزمان العراقية في طبعتها الدولية قصة قصيرة للقاص  حسين عبد الخضر بعنوان (حوار ساخن)، التي تمثل نموذجا واضحا لمقولة أن القصة القصيرة نص مبني من أجل نهايته، فهو، بكل تفاصيله يتسارع نحوها ويشير اليها، ومع ذلك يجب أن تكون النهاية مدهشة وغير متوقعة، تبدأ القصة بهذه العبارة:
((ثم . . أنت قد لا تدركين ما اقوله لك . لا شك أنك عشت حياة مثالية ، ربما تعتبرينها أنت عادية ، فقد عشت في كنف أبوين حانيين يخافان عليك ، يتعهدانك إذا مرضت ، وربما يقصان عليك قصص قبل النوم ، لا شك أنك كنت تمتلكين سريرك الخاص ، وربما غرفتك الخاصة ، وترتدين ملابسك الخاصة ، لذلك أنا اشك في أنك تستطيعين مجرد تصور ما سوف احكيه لك .))
يبدو من هذه البداية أن الخطاب السردي هنا مبني بصيغة المخاطب، وأن المتكلم سيعرض حكاية فقره وحرمانه في مقابل حياة هذه الفتاة المخاطبة التي يبدو أنها من عائلة موسرة. فيبدأ فعلا بإخبارها عن طفولته المتعبة واضطراره أن يعيل عائلته وهو لما يزل طفلا، حين يحمل (صينية الطاطلي) باكرا متوجها إلى السوق. غير أننا نصطدم بعد حين بعبارة:
((استمرت في نبش الأرض برجلها ، ومتابعتي باهتمام ، وكأنها تتسلي بسماع حكاية من حكايات جدتها .))
هنا تغيرت صيغة الخطاب وانتقلت من كونها خطابا مباشرا مع شخصية أخرى في مجرى السرد إلى إخبار عن حدث في الماضي، فالقاص هنا يتصرف ككاتب السيناريو، ويضع تعليقات معترضة تؤدي وظيفة توصيف الحركة، إذ يعود بعد هذه العبارة إلى حواره الساخن، ليكمل حكاية طفولته البائسة:
((.......عندما يقترب وقت الضحي ، يكون الوقوف في مكاني غير مجد . احمل صينيتي وأدور بها في السوق رافعا ندائي ، وربما اتجاوز السوق إلي شوارع أخري مكتضة بالناس ، فأبيع بعضا من بضاعتي .))

 
مثل تلك الشروح السيناريوية ترد مرات أخرى في النص مثل:
((لكنها بقيت مخلصة لصمتها ، الذهول يشد ملامحها إلي بعضها ، بدت مهتمة تماما)).
وهو من خلالها يحدد انطباعات القارئ عن شخصية الفتاة التي يخاطبها، فهي صامتة صمتا يوحي باهتمامها من غير أن تقوم بأي رد فعل ملموس.
((تمنيت لو أنها ابتسمت للنكتة ، لو أنها قامت بأي ردة فعل ، لكنت وجدت فرصة لتغيير الموضوع ، ولم اضطر لسماع انين الرجل الجريح ، غير أنها لم تمنحني أية فرصة للتراجع.))
ثمة إصرار في هذه التعليقات على التركيز على فكرة الصمت وانعدام ظهور أية ردة فعل حركية. ويستمر الراوي في بوحه هذا حتى يصل به الضيق بصمتها حدا لا يطاق لتأتي عيارة النهاية الصادمة التي ستجعلنا نعيد قراءة القصة لفهمها بما يتوافق مع هذه العبارة:
((استمرت معتصمة بصمتها ، ربما كانت متعاطفة معي في داخلها ، ربما كانت ستقول اشياء كثيرة لو أنها تمكنت من الكلام ، لكنها اكتفت بالنظر إليّ فقط . لم تقل ولو كلمة واحدة لتطفئ القليل من الغضب المتوقد في صدري . وفي لحظة جنون حملتها في كفي ، وصرخت فيها أن تتكلم ، لكنها راحت تقاوم قبضتي بدفعات ضعيفة من أرجلها الخشنة . اطبقت قبضتي عليها اكثر ، فشعرت باحشائها تفيض في كفي.))
إن عبارات (حملتها في كفي) و(تقاوم قبضتي بدفعات ضعيفة من أرجلها) و(شعرت بأحشائها تفيض في كفي) ستجبرنا على إعادة القراءة لتفسير القصة بما يعطي معنى معقولا لهذه العبارات, فكيف حملها في كفه؟ وكيف احتواها كفه بحيث كان يشعر بدفعات أرجلها الضعيفة؟ ولماذا أرجلها خشنة وهي تلك الرقيقة التي أسبغ عليها صفات الرفاهية؟ ولماذا (تفيض) أحشاؤها وليس أية كلمة معتادة أخرى؟
بكلمات قليلة في عبارة النهاية, يضعنا القاص في موقف نشعر فيه أننا خُدِعنا، فهذه التساؤلات التي ستقفز إلى أذهاننا تدل على أن الراوي أوهمنا بوجود فتاة مخاطبة، وهي لاشك فتاة بشرية ولا شيء آخر بما قدم من صفاتها في الفقرات الأولى للقصة.
ثمة جملة قصيرة مفتاحية ترد في وسط القصة:
((وتصاعد في رأسي لحن لكمان حزين . مددت يدا مرتجفة ، تناولت كأسا ، ورشفت علي مهل ، رشفات قصيرة متتابعة ، احسست بها ، وهي تنزل إلي أحشائي . لكنها بقيت مخلصة لصمتها)).
غير أن القارئ لن يتنبه إلى أهميتها إلا بعد أن تصدمه النهاية، فما هي هذه التي (احسست بها ، وهي تنزل إلي أحشائي)؟
ثمة اختلاط كبير هنا بين ما شربه من الكأس وبين فتاته التي يخاطبها، فعندما تناول كأسا أحس بها تنزل إلى أحشائه. وطبعا لا يمكننا أن نقول أن الفتاة هي محتويات الكأس بسبب الأوصاف التي وصفها بها والأفعال التي أسندها اليها.
هذا الخلط بين الشراب والفتاة هو مفتاح فهم قصة (حوار ساخن)، فالقصة محض حوار داخلي في وعي الراوي يمر به في لحظة سكر، أما الفتاة فهي ليست الا صورة غلى علبة المشروب الذي يتعاطاه، والدفعات الضعيفة من أرجلها هي حركة السائل داخل العلبة الناتج عن حركة يده الهستيرية، وأرجلها خشنة لأنها قرب حافة العلبة من أسفل، وهكذا تكون أحشاؤها سائلة تفيض في كفه الذي استطاع أن يحملها ويحتويها ويضغطها بقوة.
إنها نهاية تحويلية، تؤدي إلى بناء فهم جديد للنص، غير الفهم الذي تبنيه عملية القراءة تدريجيا، وهذا الأسلوب الذي يستدرج القارئ إلى فخ نهاية غير متوقعة يمكن أن يكون عنصرا جماليا صادما يولد أكبر قدر ممكن من الدهشة اللازمة لنهاية قصة قصيرة.


 
 
 

 

الثلاثاء، 25 أغسطس 2015

علم النفس الرقمي

يوما بعد يوم تتغلغل الانترنت في حياتنا، لتستحوذ على رقعة متسعة من نشاطاتنا اليومية، فتكون بديلا للحياة الإنسانية الواقعية, فالانترنت لم تعد محض مصدر للمعلومات، فقد حولتها إمكانات التفاعل والاتصال إلى وسيلة من وسائل الحياة المفعمة بالأنشطة الإنسانية من فنون وأعمال وتجارة وعلاقات فردية وجماعية.
من الواضح أن مستخدمي شبكة الانترنت أصبحوا يشعرون بالانتماء إلى مجتمع جديد، وهو ما كان يسمى المجتمع الافتراضي، ونرى إنه لم يعد افتراضيا، بل يتصف بالكثير من الواقعية ولذلك فضلنا تسميته المجتمع الرقمي.
يشترك المجتمع الرقمي مع المجتمع الطبيعي بالكثير من الصفات، فهو مجتمع متكامل يمكن فيه دراسة الفرد وطبائعه وسلوكه الشخصي، كما يمكن دراسة العلاقات الاجتماعية وخصائصها، وفيه الأنشطة الجماعية التي تتيح دراسة سلوك الفرد داخل الجماعة والحركة الجمعية والقيادات وأساليبها، كما أن المجتمع الرقمي مجتمع منتج للفنون والآداب، ومجتمع اقتصادي فاعل إذ أصبحت المليارات من الدولارات تتدفق عبر هذا المجتمع بين البنوك الألكترونية والمتاجر الرقمية، مما أدى إلى نشوء نمط جديد من علاقات الإنتاج.
تختلف الطبيعة الديموغرافية للمجتمع الرقمي كثيرا عن المجتمع الطبيعي، فالفرد في المجتمع الرقمي يمتلك القدرة على خلق البيئة التي توفر له الراحة والفائدة، فبإمكانه اختيار الأشخاص الذين يتعامل معهم ويضعهم في قائمة (الجات chat) مثلا ليكون كالجيران في المجتمع الطبيعي، يراقبهم من النافذة ويرى متى يكونون متواجدين ليتعامل معهم، كما يمكنه حجب كل الأشخاص الذين لا يرغب بالتعامل معهم، كما أن (المفضلة Favorites) تمثل وسيلة أخرى لخلق البيئة المرغوبة من خلال تحديد المواقع التي يدخلها الفرد يوميا.
يمكن القول أن المجتمع الرقمي يقع في منطقة بين الحلم والواقع، فهو حلم إرادي يتيح للفرد أن يكون ما يتمنى هو لا ما حكم عليه المجتمع الطبيعي أن يكون، فبإمكانه أن يختار لنفسه اسما جديدا يتمناه وعمرا مثاليا وصورة يرغب فيها، بل إنه يستطيع حتى تغيير جنسه إن رغب في ذلك. وهذا ما يتيح للفرد شكلا من العلاقات الاجتماعية لا يمكن مقارنته أبدا بالعلاقات في المجتمع الطبيعي، فالأسس والضوابط والوسائط مختلفة تماما.
ومن أجل التوضيح فقط يمكن أن نشبه الحاسوب الشخصي بالمنزل الشخصي، إنه مكانك الذي فيه ممتلكاتك وأسرارك الشخصية، وهكذا يمكن أن ننظر إلى برامج المحادثة كما لو كانت غرفة الضيوف في المنزل يمكنك أن تستقبل فيها الأصدقاء والشخصيات التي يربط بينك وبينهم عمل ما، وكما في المجتمع الطبيعي لا يستطيع هؤلاء الضيوف رؤية ما في منزلك خارج هذه الغرفة الا بإرادتك، ولكن على الضد من المجتمع الطبيعي لا يستطيع الضيوف رؤية بعضهم البعض الآخر.
كما يمكن النظر إلى المستعرضات (Explorers) على أنها البيئة العامة التي تشمل الطرقات والأسواق والمدارس والمنتديات والمكتبات وأماكن اللهو والتسلية والتنزه.
وكما في المجتمع الطبيعي تتنوع أنماط السلوك في المجتمع الرقمي فهناك الأسوياء والعصابيون والمنحرفون، هناك المتفائلون والمتشائمون، الشخصيات المرحة والكئيبة،...... وليس بالضرورة أن تتطابق الشخصية الرقمية مع الشخصية الطبيعية للفرد نفسه فهناك الكثير من الأفراد الذين استطاعوا أن يخلقوا شخصيات لهم أصبحت مشهورة على الشبكة بينما هم مغمورون في المجتمع الطبيعي، وهناك الكثير من الأسوياء في المجتمع الطبيعي يعيشون في المجتمع الرقمي بشخصيات منحرفة.
ثمة مظهران من مظاهر المجتمع الرقمي السيكولوجية لابد من الإشارة إليهما، أما الأول فهو إمكانية التنكر، أي تقمص شخصية أخرى لا علاقة لها بالشخصية الطبيعية ويتيح هذا إمكانية ظهور المحتالين التي تمثل ظاهرة الرسائل المزعجة (SPAM) المثال الأبرز عليها.
وأما الثاني فهو إمكانية التخفي (Anonymity) وهي مختلفة عن التنكر وتعني امكانية تنقل الفرد في الفضاء الرقمي من غير أن يكون مرئيا، وتتيح هذه الإمكانية حدوث الجريمة الرقمية وظهور القراصنة واللصوص الرقميين. وهكذا يكون بإمكان شخص متخف الدخول إلى منزلك (حاسبتك الشخصية) والعبث بمحتوياته، وربما يسرق هويتك (بياناتك الشخصية) ويظهر في المجتمع الرقمي بها ويراسل الآخرين باسمك ومن بريدك الشخصي الذي سيطلع عليه ويكشف من خلاله كل علاقاتك الشخصية.
تقوم الكثير من محركات البحث التي أهمها (google و yahoo) بجمع المعلومات عن المستخدمين من خلال ما يبحثون عنه فيها، وتستفيد من هذه المعلومات في أنشطة قد يعد بعضها تعديا على الخصوصية الفردية، فمن خلال ما تبحث عنه يستطيع محرك البحث دراسة رغباتك ويقوم بعرض الاعلانات التجارية التي تستهويك، كما أنهم يوفرون تلك المعلومات التي يجمعونها للمنتجين لدراسة رغبات مجتمع المستهلكين.
تمثل المنتديات على الشبكة مثالا جليا للأنشطة الجماعية، حيث يظهر فيها سلوك الأفراد الرقميين عندما يكونون داخل جماعة، وهنا تظهر شخصيات كارزمية لها قابليات قيادية وشخصيات أخرى تمثل الجمهور المقاد، وتظهر شخصيات اجتماعية قادرة على الاندماج السريع والتفاعل مع الجماعة وشخصيات أخرى صعبة المراس، شخصيات لبقة تتمتع بلياقة محببة وشخصيات مزعجة منفرة، شخصيات تقيم علاقات صداقة علنية في المنتديات وشخصيات تبحث عن الأبواب الخلفية لتقيم علاقات سرية غير مرئية من قبل الجماعة.
ما أردناه في هذا المقال إثارة موضوعات يمكن أن تشكل حقولا للدراسة لتأسيس علم النفس الرقمي الذي لم بشر اليه على أنه علم مستقل إلى الآن، والمقال دعوة للمختصين بالدراسة السيكولوجية للبحث في هذا الميدان.

الخميس، 20 أغسطس 2015

قطار محمود درويش الساقط من الخريطة منذ ستين عاما

     نشر الشاعر محمود درويش مؤخرا قصيدته الأخيرة (على محطة قطار سقط عن الخريطة) لمناسبة مرور ستين عاما على اغتصاب فلسطين، ولأن هذه القصيدة – كما نرى- واحدة من القصائد المهمة التي تفصح عن خصوصية تجربة الشاعر، فقد وجدنا أن من المهم تأملها ودراسة خصائصها. (يمكن الاطلاع على القصيدة في الرابط http://www.alquds.com/node/26827).
من المعروف أن درويش ينتمي إلى المدرسة السيابية، وقد صرح هو بذلك في غير مناسبة، ولعل الطابع المميز لهذه المدرسة يتمثل بالعناية بتدفق الإيقاع الذي لا تنازل عنه، والاهتمام بالصور المجازية المركبة والمعقدة التي تمتد على مدى أسطر عدة وتتشابك فيما بينها لتصنع لحمة النص وسداه.
غير أن هذه القصيدة تتضمن تطويرا مهما للتجربة الإيقاعية يتجلى بذهاب الشاعر إلى جعلها جزءا أساسيا من بناء الدلالة الشعرية، لتخرج من كونها محض خلفية شعورية تسهم في بناء الجو النفسي للقصيدة إلى عنصر تركيبي يؤدي معاني ودلالات فوق تلك التي تؤديها المفردات
تتكون القصيدة من مائة وخمسة وأربعين سطرا حسب الشكل الطباعي الذي وضعه الشاعر، أما الدلالة الإجمالية الذي أرادت التعبير عنه فهو النكوص والإحباط، وهي تبدأ بالأسطر:


عُشْبّ ، هواء يابس ، شوك ، وصبار
على سلك الحديد. هناك شكل الشيء
في عبثية اللاشكل يمضغ ظًلَّهُ...
عدم هناك موثق.. ومطوَّقّ بنقيضه
ويمامتان تحلقان
على سقيفة غرفة مهجورة عند المحطةً
والمحطةُ مثل وشم ذاب في جسد المكان
هناك ايضا سروتان نحيلتان كإبرتين طويلتين
تطرّزان سحابة صفراء ليمونيّةً
..........................


إن أول ما يلفت الانتباه في هذه الأسطر ظاهرة التدوير، فلا سطر منها ينتهي بنهاية تفعيلة البحر العروضي تقريبا، إذ أن هناك دائما حرف أو حروف زائدة لا بد من وصلها بالسطر التالي ليستقيم الوزن، فالقصيدة من تفعيلة الكامل (متفاعلن)، ولكي تقرأ الأسطر قراءة عروضية سليمة يجب أن تكون هكذا:


عُشْبّ ، هواء يابس ، شوك ، وصبـ
بار على سلك الحديد. هناك شكـ
ل الشيء في عبثية اللاشكل يمضغ ظًلَّهُ...
عدم هناك موثق.. ومطوَّقّ بنقيضه
ويمامتان تحلقا
ن على سقيفة غرفة مهجورة عند المحط
طةً والمحطةُ مثل وشم ذاب في جسد المكا
ن هناك ايضا سروتان نحيلتان كإبرتين طويلتي
ن تطرّزان سحابة صفراء ليمونيّةً


إن الوقفات في نهايات الأسطر وقفات نحوية، لكنها لا تتساوق مع النهايات الفيزياوية للهيكل الوزني، وعلى القارئ أن ل يتوقف أبدا إذا أراد الإحساس بالإيقاع العروضي.
هذا التعارض بين السياق النحوي والهيكل العروضي يعبّر بقوة عن الدلالة العامة للقصيدة، فالجملة تصل نهايتها النحوية، غير أن الوزن يجبرها بقوته الإيقاعية على الاتصال بالجملة التالية وعدم التوقف، فهنا نظامان متعارضان، الأول اختياري وهو الشكل النحوي الذي يفترض أن يتمكن الشاعر من التحكم به وتطويعه كما يشاء، فيقف عندما يريد الوقوف ويصل عندما يريد الوصل، ونظام إجباري لا يتيح لذلك النظام الاختياري الفسحة المتوقعة من الحرية. هذا التعارض يشبه ويصور بالضبط الدلالة العامة للنص، الرغبة في التحرير وإرادة العودة خيارات مصيرية عند الفلسطيني، غير أن مجرى التاريخ وما يحفل به من أحداث منذ ستين عاما لا تجري بما تشتهي السفن نظام إجباري يحبط تلك الخيارات ولا يتيح لها فسحة لكي تتحقق. خيارات الفلسطيني المصيرية تقابل النحو. ومجرى التاريخ يقابل الشكل الوزني المفروض عليه.
أما الظاهرة الأخرى في بنية هذه القصيدة فهي إزدواجية الصوت، لا بمعنى تعدد الأصوات المعروف في النصوص المعاصرة، بل إن المتكلم هنا يتكلم بصوتين، فالنص يشبه إلى حد كبيرشخصا يتحدث في جمع من الناس، وفي الوقت ذاته يحدث نفسه لإيجاد تفسيرات أكثر عمقا من تلك التي يقولها علنا، فالهزيمة أكبر من كل الكلمات التي يمكن أن تقال وحتى من تلك التي لا يمكن أن تقال. في النص عبارات معترضة يضعها الشاعر بين قوسين، وهي يمكن أن تكون علامات إرشادية لفهم النص وتحديد منعطفاته الدلالية، غير أن تغير نغمتها وطبقتها ومزاجها يشير إلى أنها ليست جزءا أصيلا من السياق, إنها أشبه ما تكون بالتعليق أو حديث المرء مع نفسه:


وهناك سائحةّ تصوّر مشهدين:
الأوّلَ ، الشمسَ التي افترشتْ سرير البحرً
والثاني ، خُلوَّ المقعدً الخشبيًّ من كيس المسافرً
(يضجر الذهب السماويُّ المنافقُ من صلابتهً)
وقفتُ على المحطة.. لا لأنتظر القطارَ
ولا عواطفيَ الخبيئةَ في جماليات شيء ما بعيدْ ،


فالسطر بين القوسين جاء بلغة أكثر صرامة وأكثر يأسا من  الأسطر المحيطة به.


ألا تزال بقيتي تكفي لينتصر الخياليُّ الخفيفُ
على فساد الواقعيًّ؟ ألا تزال غزالتي حُبلَى؟
(كبرنا. كم كبرنا ، والطريق الي السماء طويلةّ)
كان القطار يسير كالأفعى الوديعة من
بلاد الشام حتى مصر. كان صفيرُهُ
يخفي ثُغاءَ الماعزً المبحوحَ عن نهم الذئاب


وهنا يعبر السطر بين القوسين عن  أن الموت صار أمنية بعيدة المنال، وهكذا كل العبارات بين الأقواس في القصيدة تأتي تعبيرا صادقا بلغة مرة عن الإحباط واليأس، ولأن الشاعر يريد إبراز أهمية هذه الأسطر بين الأقواس، فإنه يختتم القصيدة بواحد منها:


................يقول لي القضاة المنهكون
من الحقيقة: كل ما في الامر أن حوادث
الطرقات أمرّ شائع. سقط القطار عن
الخريطة واحترقتَ بجمرة الماضي. وهذا لم
يكن غزواً،
ولكني اقول: وكل ما في الأمر اني
لا اصدّق غير حدسي
(لم ازل حيا)


لا تدل العبارة (لم أزل حيا) على السعادة بالبقاء على قيد الحياة  كما هو المفترض في مثلها، فالسياق يشير الى أن المتكلم هنا يقولها أسفا، فهو يتمنى الموت ولا يناله، ويمكننا أن نلاحظ كيف ربط الشاعر بين هذه الأسطر التي بين قوسين وبين الهيكل الوزني، فالعبارة (لم أزل حيا) لم تنته بنهاية التفعيلة لتصبح وقفة نهاية فيزياوية للقصيدة، إنها وقفة نحوية، لكن التفعيلة الأخيرة لما تزل ناقصة تبحث عن تتمتها، أو إن التدوير يريد الاستمرارالى ما لا نهاية:


ولكني اقول: وكل ما في الأمر اني
علن متفاعلن متفاعلن متفاعلن متـ
لا اصدّق غير حدسي
ـفاعلن متفاعلن متـ
(لم ازل حيا)
ـفاعلن متفا


وفي هذا تعبير واضح عن استمرار المأساة. لا يريد الهيكل الوزني التوقف، ولا يريد التاريخ أن يقف وقفة ينصف بها مظلمة الشاعر، ومظلمة الفلسطيني. أما النحو فقد انتهى إلى تعبير منفي عن الحياة ((لم) أزل حيا).



الأربعاء، 19 أغسطس 2015

عندما يكون بطل القصة القصيرة طفلا - فرج ياسين نموذجا

يمكن أن يلحظ قارئ فرج ياسين بسهولة ظاهرة ما فتئت تغلب على أدبه, التركيز على ثيم الطفولة عبر أبعاد متنوعة وتقنيات متعددة، غير أن الشخصية الرئيسة في القصة القصيرة عندما تكون طفلا فإنها تطرح إشكالات فنية يمكن أن تكون واحدا من مصادر المتعة الجمالية في هذا الفن الذي يتسع لمديات غير محدودة من الإبداع.
فمما لا شك فيه أن القصة تهدف بالمرتبة الأولى إلى أن ترينا العالم كما يراه راويها الذي قد يكون البطل أو غيره، عبر ما يعرف بزاوية النظر أو وجهة النظر (Point of view). غير أن تصوير العالم بمفاهيم طفل قد  لا يكون بالأمر اليسير. وفي قصص فرج ياسين تنويعات كثيرة اشتغل عليها في مجال زاوية النظر لبطل القصة الطفل.
ولعل أبرز تلك التنويعات أن يكون الراوي هو البطل (الطفل) نفسه، كما في قصة (حافات السنين المدببة) في مجموعته الأخيرة (رماد الأقاويل)، فالشخصية الرئيسة (علي) الصبي الذي يحب التهرب من المدرسة يعرض عالمه على القارئ برؤية الطفولة التي يمتزج فيها المتخيل بالواقعي والصادق بالمختلق، ولذلك يرى القارئ عالمه غرائبيا وربما سحريا. وفي الجزء الأخير من القصة يمكننا أن نلاحظ كيف فسر شعوره بأول تجربة شبقية يمر بها:
((كان ثمة لفحة من هواء مداث بصدأ الظهيرة ، انسلت من مساحة الفراغ التي خلفها الباب الموارب ، مع بقعة من نور الشمس ، حطت في وسط اللوح ، مثل كف منزوعة الأصابع مكبرة عشرين مرة ، جعلت ترتفع وئيداً حتى غشي اثنان من أصابعها عيني وأطفأهما . لكنني سمعت لهاث العجوز ، ورفعني عطرها إلى أزقة الروح ، مستتيماً إلى وخزات أعضائها في أماكن مختلفة من جسدي ذّرت في القلب حرقة غامضة كالحلم ، بعدها أخذ جسدها يتقبض في مثل زفرات طفل مقرور ، صرخت لا، لا. ثم فاح لعاب دبق وملأ بأبخرته فضاء المكان)).
ولأن القصة تروى هنا من زاوية نظر الطفل يمكننا ملاحظة البراءة والسذاجة في تفسير الظواهر.
غير أن واحدة من مشكلات البطل الطفل تحدث حين يكون الراوي أحد البالغين كالأم أو الأب، ويبدو من الصعب عليه فهم رؤية ذلك البطل، كما في قصة (ثوب بنفسجي قصير الأكمام)، وهي واحدة من روائع قصص الحرب، إذ تصور مأساة إنسانية مؤثرة، أم في ريعان الشباب قتل زوجها في الحرب التي حين وضعت أوزارها كان ابنها الوحيد قد بلغ الثامنة من العمر، وبينما كان الناس يحتفلون بوقف الحرب شعرت هي بمرارة الفقد وحرجها أمام ابنها الذي كانت تعده بعودة أبيه محملا بالهدايا. تظهر الأم وهي تصلح ثوبا بنفسجيا زاهيا لتوهم الصبي أنها تستعد لاستقبال والده، غير أن ما يغيب عنها قوة الحدس الذي يتمتع به الأطفال إن من الصعب أن لا يشعر طفل في الثامنة بوفاة والده، لكنه مع ذلك يقنع نفسه بوعد أمه، وهكذا نرى صورة الطفل من زاوية نظر أمه وهو يقوم بحركات غير مفهومة، إذ لا يبدو سعيدا بذلك الثوب الزاهي ولا بالوعد المغري خاصة حين تصيب إبرة الخياطة سهوا أحد أصابعها:
((.......ثم كشف عن وجهه، ورأت الى عينيه وهما تعلقان في الفراغ مطوفتين حول صورة أبيه المعلقة على الجدار المقابل.))
لم تكن نظرته تشي بسعادة المنتظر عودة أبيه الوشيكة. بل كانت نظرة غير مفهومة (في الفراغ)، وكان رد فعله على وخزة الإبرة لافتا هو الآخر:
((رفس الغطاء ثم استوى قاعدا في الفراش، واقترب حتى أصبح الإصبع الدامي بين عينيه، فاتسعت حدقتاه ورتق الذعر صفحة وجهه المدور العميق السمرة، كانت قد أمسكت بإصبعها المصاب واعتصرته، فنفرت قطرة واحدة من الدم، وتكورت مترقرقة تحت ضوء المصباح.))
لم يكن جرحا بل محض وخزة ابرة بسيطة، ومع ذلك هزت كيان الطفل وملأته ذعرا، وهذا السلوك كشف معرفته بمقتل أبيه التي يريد عدم تصديقها بالانصات مرارا الى وعد أمه. والمهم في مثل هذا النوع من القصص ملاحظة عدم قدرة الراوي البالغ على تفسير سلوك البطل الطفل وفهم حقيقته.
وثمة حالة أخرى يفيد منها فرج ياسين في تكوين مبنى جمالي مستمد من شخصية البطل الطفل، حين يسترجع الراوي البالغ أحداث حكاية حدثت له في طفولته، وربما كانت قصة (رماد الأقاويل) أفضل نموذج لهذه الحالة حيث يحاول الراوي العجوز تفسير واحدة من حكايات الطفولة:
((    قبل أن يظهر لنا هذه المرة ، في الحوار ، كنا قد استدعيناه من حرائق طفولتنا ، لكن السنين العجفاء جعلتنا نغص بهباء الاكتشاف . نعم ، كان رجلاً! وفي محاولة أخرى لطواف الفكرة حول نفسها ، وكان يظهر عارياً على شاطئ حصوي تحف به أجمات الغرب الصغيرة . وفي محاولة أخرى حصلت في المستقبل الذي انقضى منذ زمن طويل: وكان ذلك في الصباح يطل من شاهق على أحلامنا الناعمة . أكان ذلك في كل صباح ؟.))
هنا يلعب القاص لعبة  التعارض بين مفاهيم الطفل ومفاهيم البالغ، فالرجل العجوز يتحدث عن شخصية شعبية كان ينظر اليها على أنها شخصية أسطورية  أو فنطازية سحرية عندما كان طفلا، غير أنه لا يستطيع تفسير ذلك الفهم الآن وهو في عمر الشيخوخة، في الوقت نفسه الذي يصعب عليه فيه نبذ تلك التفسيرات الطفولية والتخلي عنها، وبعد سرد مفصل لتلك المفاهيم والتفسيرات البريئة يقرر في النهاية الاستسلام لها:
((    لشد ما تراءت صورته في ذاكرتي ، مرة يسوح في الأقاويل ، ومرات كثيرة ينتصب فرداً أمام عيني غلام مرنقتين بضباب غبش شتائي ، يخرج عارياً من خلف خرائب القلعة ، فوق عش اللقلق ، يحمل صحيفة مملوءة ماء ويولي وجهه شطر أفق يقف على رؤوس أصابعه ، منتظراً خيوط الشروق الأولى ، بيد أنني انتظرت أعواماً أخرى ريثما تهدا الضجة ويكتمل نصاب الأقران . لكن الجلسة التي ظلت قائمة منذ ثلاثين عاماً لم تتسع الآن ألا  لعكازاتنا المتصالبة تحت الأرائك النخرة .))
فرؤية البطل الطفل عصية على الفهم من قبل البالغين، حتى لو كان ذلك البالغ هو الطفل نفسه بعد بلوغه مبلغ الكبار.
وفي قصة لافتة أخرى يقدم فرج ياسين طفلا غريبا. طفل في الخمسين من العمر، في قصة (الصرة)  المنشورة في مجموعته (حوار آخر). فبطلها (عباس) وحيد أمه، أوقف نفسه لخدمة تلك الأم استجابة لتعلقها به، ومرت أعوامه الخمسون من غير أن يكتسب أية تجربة معرفية اجتماعية إذ لم يختلط بأحد من الناس وبقي متمسكا بالتفسيرات الطفولية للحياة. ويبدو أن الأم كانت هي الأخرى راغبة في ذلك:
((- حسنا لقد كانت له أم وكانت تحتفظ به بشدة، لقد كانت تسميه (الطفل)، وهو في الخمسين. إنها تجلس بعد مغيب الشمس من كل يوم عند عتبة البيت، فيداعبها الكبار والصغار قائلين: ما الذي تنتظرين يا أم عباس فتقول: إنني أنتظر الطفل .......))
واللافت في القصة أن القاص يصور سلوك بطلها كأنه لا يملك وسيلة للاتصال بالعالم سوى السمع فهو لا يستفيد أبدا من عينيه، وهذه إشارة واضحة الى أنه كما لو كان ما يزال في الطور الجنيني من حياته، وحين تموت أمه يغرق في متاهة الحياة التي لم يتعلم كيف يسلك طرقها:
((... وهو الآن لا يناقش ما يستمع إليه،إنه يتلقاه فقط. وقد تخجله حرية الآخرين، ليس لأنها تخرج عن الحدود أحيانا فهو يعرف أن لا حدود بل لأنه لا يستطيع أن يتصور الحرية بدون أم.))
إنه (طفل) يتلقى العالم بانطباعات فورية ومن غير محاولة للتفسير، ولا حدود عنده لأي شيء، والحرية عنده هي الحياة في كنف أم راعية يتصرف أمامها كيف شاء من غير خوف ولا وجل لأنها هي من يوفر له الحماية.
وبعد مراجعات مع النفس يقرر عباس تلك الليلة أن لا يبيت في بيته الذي خلا من أمه ويعود إلى محلج القطن الذي يعمل فيه ليجده مقفلا، حين ذاك:
((.... قرفص الى جانب الباب وشبك يديه فوق ركبتيهثم أغمض جفنه الخدر.... لكنه ظل متزملا بمعطفه الأخضر الثقيل وبالكوفية راح الآن ينشرها ويلفها حول رأسه ووجهه، وبعد قليل أسند كتفيه الى الحائط، وجعل ظهره متجها للريح....))
من الواضح أن (عباسا) يتخذ هيأة الجنين ويصنع من ملابسه ما يشبه رحما يعزله عن العالم فهو يرفض أن يولد. أما (الصرة) فهي اللغز الذي حيره فقد ورثها فيما ورث من أغراض في صندوق أمه صرة صغيرة من القماش الأسود لم يجرؤ على حل عقدتها واكتشاف ما بها واكتفى بمحاولة الحدس. لكنه في آخر أسطر القصة بعد أن اتخذ تلك الجلسة:
((.... لكن أصابعه لامست الصرة في جيبه فاستوى جالسا وأخرج الخرقة السوداء، وبخفة متناهية أعمل أصابعه في حل عقدتها، لكن الذي هاله أنه لم يجد شيئا في داخلها. لقد كانت قطعة القماش الخشنة تلتف على نفسها عدة مرات ليس إلا.))
يبني القاص هنا مفارقة لغوية فالصرة في اللهجة العراقية تشير أيضا الى (السرة) مكان ارتباط الحبل السري الذي يغذي الجنين. وهكذا كان انحلال عقدة تلك الصرة الولادة الإجبارية للبطل بعد موت أمه رغما عنه وعلى الرغم من رفضه تلك الولادة.
وهكذا يمكننا ملاحظة كم من الجمال الفني يمكن أن تتضمن قصة قصيرة تتخذ طفلا شخصية رئيسة فيها. خاصة عندما يأخذ القاص وجهة نظر ذلك الطفل بنظر الاعتبار.





الاثنين، 17 أغسطس 2015

القافية بين التراث والمعاصرة

لمدة قد تجاوزت ألفا وخمسمائة عام كانت القافية تمثل الصوت الأبرز في النظم العربي. وكانت تحمل من الأهمية والجاذبية والسحر ما حمل الأقدمين على التدقيق في دراستها حتى وضعوا علما أطلق عليه اسم (علم القوافي وألّفوا فيه المصنفات والفصول والرسائل (مثل كتاب القوافي للقاضي أبي يعلى التنوخي، والكافي في العروض والقوافي للخطيب التبريزي).
في القصيدة التقليدية تبدو القافية ركنا من أركان النظم، لا يمكن التخلّي عنه إطلاقا، فالبناء التناظري لتلك القصيدة يوجب إيجاد رابط مادي يشد الأبيات إلى بعضها، فكانت القافية، بوصفها النهاية الفيزياوية للبيت هي ذلك الرابط الذي ارتضته الذائقة العربية.
إنّ الكلمة الأخيرة في البيت الشعري التقليدي- التي تتضمن القافية وصوت الروي- تمثل نهاية للبيت على مستويات ثلاثة؛ دلاليّ، ونحوي، وصوتي. فلو نظرنا في هذا البيت مثلا:


لخولة أطلال ببرقة ثهمدِ      تلوحُ كباقي الوشم في ظاهر اليدِ


سنلاحظ أن كلمة (اليد) هي التتمة النحوية لجملة التشبيه، والتتمة الدلالية التي لم يكتمل معنى مفيد الا بعد ورودها، فضلا عن كونها النهاية الصوتية المادية للبيت.
وقد كان الشعراء بحسهم المتقدم باللغة يفيدون من الإمكانات اللغوية التي توفرها القوافي في توليد الإدهاش لدى المتلقي لانتزاع إعجابه، وإحساسهم باللغة كان أكثر تقدما من إحساس الشراح والنحاة، فكانوا يكسبون استحسان المتلقي تاركين النحاة في حيرتهم.
لم ينل بيت من الشعر العربي التقليدي من العناية والتحقيق ما ناله مطلع معلقة امرئ القيس:


قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلِ   
                       بسقط اللّوى بين الدخول فحومل


ولكني ذهلت عندما وجدت الشراح والنحاة غير قادرين على تعليل استخدام الشاعر (الفاء) بدلا من (الواو العاطفة) في كلمة القافية (فحومل)، فالقاعدة تقضي بذلك إذ كما يقول النحاة لا يجوز القول (جلست بين زيد فعمرو)، بل إن الشراح لم يلتقتوا إلى هذه العبارة، فالمرزوقي في شرحه لم يلتفت إلى البيت إطلاقا، وكأن معناه مفروغ منه، أما الزوزني فشرحه شرحا مفصلا، ولكنه تغافل عن قول الشاعر (فحومل)، فقال:((وذلك المنزل، أو ذلك الحبيب، أو ذلك البكاء بمنقطع الرمل المعوج بين هذين الموضعين)).
وقال الأصمعي وهو أحد رواة القصيدة:(( إن الصواب روايته بالواو لأنه لا يجوز جلست بين زيد فعمرو...))، فخطّأ الشاعر أو راويه.
وأما النحاة فمنهم ابن هشام في مغني اللبيب قال معرض حديثه عن معاني (الفاء العاطفة):(( وتارة بمعنى الواو كقوله"  بين الدخول فحومل ... "))، فلم يجد تعليلا سوى إلغاء أثر هذا الحرف جملة.
وإذا أمعنّا النظر في البيت سنجد أن الشاعر استغلّ كلمة القافية لتوليد معنى شعري لا يستطيع النحو الكشف عنه، فقد أعطى (الفاء) كثافة لافتة للكلمة، لا يمكن أن تفهم إلا في سياق البيت، فالفعل (قفا) يعني أن المخاطبين كانا يسيران والشاعر يستوقفهما، ولكنه لم يقل ما إذا كانا قد أجابا طلبه أم لا، ولذلك ذكر المكانين بالترتيب (الدّخول فحومل)، ليعطي الانطباع بالسير واتجاهه، فهم يسيرون من (الدّخول) باتجاه (حومل) وهم الآن في مكان بين الموضعين.إن كلمة (بين) تختلف عنها تلك التي جاءت في بناء قافية شاعر آخر:


فوالله لولا الله والناس والحيا    لقبلتها بين الحطيم وزمزمِ


فامرئ القيس كان بحاجة لتكثيف معناه لتوليد شيء من الإدهاش، أما هنا فالشاعر يولد الإدهاش اعتمادا على قدسية المكانين اللذين وقف بينهما.
لقد أدى تراكم خبرة الشاعر العربي عبر مئات السنين إلى أن يقوم بتطوير تكنيكات خاصة بالقافية تجعلها العنصر الرئيسي لتوليد الإدهاش، تكنيكات تعطي إشارات للمتلقي تجعله يخمّن القافية قبل الوصول إليها مما يجعله شريكا في عملية إنتاج النص، ومن تلك التكنيكات التصريع الذي يغلب أن يأتي  في مطالع القصائد. والتوشيح الذي يعني أن يكون صدر البيت منبئا بآخره مثل قول البحتري:


فليس الذي حللته بمحلّلٍ     وليس الذي حرّمتهُ بمحرّمِ


ورد الأعجاز على الصدور الذي يعني إيراد كلمة القافية في صدر البيت قبل أن تأتي في آخره مثل قول عروة بن أذينة:


حجبت تحيتها فقلت لصاحبي    ما كان أكثرها لنا وأقـــــــلها
فدنا فقــال لـــعلها مـــــعذورة     في بعض رِقْبتها فقلت لعلها


لقد تعلم الشاعر العربي التقليدي إدهاش متلقي شعره ببراعة قوافيه، والمتلقي هو الآخر تعلم الاستجابة للقافية والإعراب عن إعجابه بالقافية البارعة بكلمات شاع سماعها (أحسنت – أعد).
يستجيب القارئ للقافية التقليدية بمحاولة حدسها قبل الوصول إليها، اعتمادا على ثلاثة محددات؛ معرفة صوت الروي (حسب ما ورد في الأبيات السابقة)، والوزن، والبنية الدلالية، ففي بيت مثل هذا:
إذا رأيت نيوب الليث بارزة      فلا تظنن أن الليث يبتسمُ


ليس على المتلقي أن يبذل جهدا كبيرا ليحزر القافية فهو يعرف الروي (ميم مضمومة)، ويعرف الوزن، وتدله فكرة الأنياب البارزة على معنى الضحك.
هذه الخبرة المشتركة بين المنتج والمتلقي أدت إلى أن يبدو البيت التقليدي مبنيا من أجل قافيته، فهو يتسارع باتجاهها ليصل غايته ومنتهاه.
والقافية بهذا الفهم مثلت المظهر الأبرز من مظاهر الإبداع الشعري، ذلك لأن على الشاعر، على الرغم من الانضباط الصارم للقصيدة التقليدية، أن يأتي بقافية لا يبدو عليها التكلف، بحيث تبدو جزءا أصيلا من جسد البيت، فضلا عن ضرورتها للمعنى، إذ أنهم اشترطوا في القافية أن تضيف معنى لا غنى عنه لاستكمال الدلالة الشعرية.
ونرى أن الثورة على هذا المفهوم للقافية يمكن أن تعد أبرز إنجازات قصيدة التفعيلة في أربعينات القرن الماضي.فقد أدّى ذلك إلى تغير جوهري في مفهوم الشعر ذاته، فقد فقدت القصيدة إيقاعها العالي الذي كان يعلو على كلّ صوت فيها، وكان على الشاعر أن يجد عنصرا فنيا جديدا لإدهاش المتلقي، فكانت الصورة الشعرية هي ذلك العنصر المنشود. ولننظر مثلا في هذا المقطع الاستهلالي لقصيدة (غريب على الخليج) للشاعر بدر شاكر السياب:


الريح تلهث بالهجيرة كالجثام على الأصيل
وعلى القلوع تظل تطوى أو تُنشّر للرحيل
زحم الخليج بهن مكتدحون جوّابو بحارِ
من كل حافٍ نصف عاري
وعلى الرمال على الخليج
جلس الغريب يسرح البصر المحيّر في الخليج
ويهد أعمدة الضياء بما يصعّدُ من نشيج


لم يعد بإمكان المتلقي حدس القافية، فالشاعر حرّ في اختيار قوافيه تماما، ولهذا لم يعد السطر الشعري متجها إلى نهايته الفيزياوية، بل، عوضا عن ذلك، صار اتجاه حركة الجمل عموديّا نازلا إلى الأسطر التالية، فكلّ سطر ينتظر إتمام دلالته في السطر التالي حتى نصل إلى نهاية دلالية لا صوتية. وفي المثال السابق يلاحظ أن كل الجمل ترسم صورة خلفية للسطر الأخير الذي يضع (الغريب) بطل القصيدة على هذه الخلفية.
إنّ فك الارتباط  بين اتجاه التلقي والقافية أدى إلى تغيير جوهري في وظيفتها، فعند تخلص السطر الشعري من حتمية القافية الواحدة، لم تعد القافية مركزا يستقطب انتباه المتلقي، ولم تعد إقفالا حتميا على أي من المستويات الثلاثة (الصوت-النحو-الدلالة).
أصبحت القافية في قصيدة التفعيلة تشكّلا اختيارياً خاضعا للضرورات الفنية والجمالية كما يريدها الشاعر، ولذلك صار بإمكانه توجيه قدراته الإبداعية باتجاه الصورة الشعرية والنظر إلى أنظمة التقفية بوصفها أدوات لخدمة تلك الصورة ودلالتها الشعرية.
في النص السابق كان السياب يريد رسم صورة بطله على خلفية ساكنة توحي بالحزن، ويمكننا ملاحظة استخدام قافية مقيدة مسبوقة بـ(توجيه)، وهو حرف المد الساكن الذي يسبق الروي (الأصيل-الرحيل-الخليج-النشيج)، والحركة الوحيدة في المشهد صورة البحارة البعيدة وهم يحاولون كسب رزقهم من بطن البحر، فأظهر الشاعر حركتهم بالقافية المطلقة (بحارِ-عاري).


الناقد د.ثائر العذاري


الأحد، 16 أغسطس 2015

الأدب الرقمي وأفق التلقي.. متى يصبح الأدب الرقمي أمرا واقعا؟

لا تبدأ تجربة القراءة، ونحن نُقبل على قراءة نص ما، من لحظة مواجهتنا لذلك النص. بل هي حلقة متصلة بسلسلة طويلة تتألف من كل التجارب القرائية السابقة التي مررنا بها وشكلت خبرتنا في القراءة. فالقارئ – أي قارئ- يكون قد طوّر أنساقا معينة للتلقي تزداد رسوخا كلما تمرّس في القراءة، منها أنساق اجتماعية يتفق عليها مجتمع القراء، ومنها ما هو فردي تتميز به تجربة كل قارئ بصفة شخصية.
فأما الأنساق الاجتماعية فهي تلك المتعلقة بجنس النص، إذ أن هناك عقدا بين مجتمع القراء والمنشئ على أصول محددة ترسم حدود الجنس الكتابي. فحين نُقبل على قراءة قصيدة مثلا فنحن نفعل ذلك وقد هيئنا أنفسنا لتلقي شكل محدد من اللغة، وأنساق معينة من الجمل، وأنظمة صوتية اعتدنا مواجهتها في الشعر.
بينما نكون قد تهيئنا لنسق آخر من التوقع حين نكون مقبلين على قراءة قصة قصيرة، إذ نتوقع شخصية ستكون مركز الموقف القصصي، وأنظمة محددة لمعالجة الزمان والمكان.
ويختلف الأمر مع أي جنس كتابي آخر، فالرواية والمسرحية والمقال السياسي وغيرها نتلقى كلا منها بعد أن نكون قد حصرنا أفق التلقي في ما نتوقعه من أنساق يتفق عليها مجتمع القراء في ذلك الجنس المعين.
وأما الأنساق الفردية فهي تلك التي تتكون في وعي القارئ الفرد اعتمادا على تكوينه الثقافي ورغباته وميوله. فقد يمتلك قارئ ما خبرة في تلقي الشعر أكثر من النثر، وقد يميل قارئ آخر إلى قراءة قاصّ معين أكثر من غيره لأنه استطاع أن يفهمأسلوب معالجاته اللغوية. فضلا عن أن اللغة ذاتها بوصفها مفردات وتراكيب نحوية لها تاريخ شخصي في وعي أي قارئ يختلف عن ما هو عند غيره.
يقع القارئ المتمرس تحت سلطة أفق التلقي أكثر من الآخر الأقل مراسا،فهو حين يقبل على قراءة نص لكاتب معين سيتوقع منه ما عرفه عنه من نصوصه السابقة، فحين أتوجه لقراءة نصّ لصلاح عبد الصبور مثلا، فأنا أتوقع أنماطا لغوية تختلف عن تلك التي أتوقعها في نص لبدر شاكر السياب، على الرغم من أن كليهما يكتب نصا منتميا إلى الجنس ذاته.
إن فكرة أفق التلقي لا تعني إطلاقا تقييد الكاتب بضوابط مقدسة لا يجوز الخروج عليها، فكلّ النصوص الإبداعية تقوم على إحداث الدهشة في وعي القارئ من خلال كسر أفق التوقع، بيد أن هذا الكسر يكون في نطاق محدد ترسمه حدود الجنس، ولولا هذه الحدود لما كان باستطاعة المنشئ توليد أية صدمة أو دهشة. والأمر هنا يشبه عملية بناء دار، فلا يمكننا توقع دار من غير جدران وسقوف وأبواب ونوافذ وإنارة وتأسيسات كهربائية وصحية، غير أن هناك ما لا نهاية من احتمالات التصاميم الهندسية التي تتوفر على هذه العناصر.
إن كل الأجناس الكتابية مبنية بطريقة يفرضها الوسيط الطباعي المتكون من الورق والأحبار. ويتم تلقيها على أساس طريقة الإنشاء تلك، فالقارئ يعرف أن النص سلسلة من الجمل لها بداية ولها نهاية، وأن عليه أن يتلقاها بطريقة خطية تبدأ بالكلمة الأولى فالثانية فالثالثة وهكذا حتى يصل إلى الكلمة الأخيرة التي يكون بعدها فقط قادرا على تصور البنية الكاملة للنص.
تغيب كل هذه الأصول حين يكون الأمر عملية تلقي نص رقمي: فهذا النمط الجديد من الإنشاء مبني على أصول تختلف تماما عن تلك التي تبنى عليها الأنساق الكتابية. فالوسيط الجديد (الحاسب الإلكتروني وفضاء الشبكة) يتيح أدوات أكثر تنوعا بكثير من تلك التي يتيحها الفضاء الكتابي. إذ باستخدام تقنيات الوسائط المتعددة Multimedia  يمكن أن يفيد النص من الألوان والصور وأشرطة الصوت والفيديو. كما تؤدي فكرة الترابط التشعبي Link إلى انهيار صورة التلقي الخطي الكتابية ذات المسار ذي الاتجاه الواحد، فالنص الرقمي بنية كتليّة، تتألف من مجموعة من الكتل النصية التي يمكن التنقل بينها اعتمادا على الروابط Links، فنقرة على زر الفأرة تنقل المتلقي إلى كتلة نصية جديدة قد تكون مختلفة في كل محتواها البنائي. وأدّى هذا التكوين الكتلي إلى أن يكون من المتعذر تصور العمل الأدبي الرقمي ببداية ونهاية كما هو الحال في النص الكتابي أحادي المسار.
كما أن نظرية الأجناس الأدبية التقليدية لا تستطيع تجنيس النص الرقمي بسبب الطبيعة الجديدة التي يقوم عليها، فرواية مثل (صقيع) للكاتب الأردني (محمد سناجلة) يصعب أن تنطبق عليها أصول علم السرد، إذ تدخل في بنيتها الصور وأشرطة الفيديو والموسيقى، فضلا عن الكثير من الكتل النصية الشعرية التي تظهر عند النقر على روابط معينة.
هذه الطبيعة البنيوية الجديدة تضع المتلقي بإزاء كيان جمالي جديد، لم يطوِّر بعد أفق التلقي الخاص به، فهو يقبل عليه من غير أن يمتلك خبرة التلقي التي توازي تلك التي يمتلكها وهو يقرأ نصا كتابيا، بل إن الخبرة القرائية التقليدية قد تؤدي إلى إرباك تلقي النص الرقمي حين تفرض أفق التلقي الكتابي على النص الرقمي.
من ناحية أخرى لم يستطع مجتمع القراء بعد أن يطور عقدا اجتماعيا جديدا يرسم أفق التوقع الخاص بالأدب الرقمي. وكل ما يحدث اليوم هو أن متلقي الأدب الرقمي يطأ أرضا مجهولة لا عهد له بها من غير أن يعرف قوانينها وضوابطها المحلية. وهو يطور تجربته الفردية ببطء نتيجة لصعوبة الانعتاق من ربقة الأدب الكتابي الخطي.
غير أن جيلا جديدا ينشأ على هذا النوع الجديد من الآداب والفنون. جيل يتآلف مع تقنية الوسائط المتعددة ويجيد استخدامها، ويستمتع بها أكثر من متعته بالقراءة الخطية للنصوص الكتابية. وعندما يصبح عمر هذا الجيل الجديد بحدود متوسط أعمار المتلقين سيكون الأدب الرقمي أمرا واقعا وليس محض ظاهرة تجريبية. وعندها سيتمكن هذا الجيل من تطوير نظرية أدب جديدة قادرة على بناء عقد اجتماعي جديد للتلقي وبناء أفق التوقع الخاص بالأدب الرقمي عبر نماذج رقمية قارّة.