الخميس، 13 أغسطس 2015

الموتى لا يرتدون الأحذية


ببراعة مذهلة تمكنت الشاعرة المصرية (وفاء بغدادي)، في أول تجربة روائية لها (الموتى لا يرتدون الأحذية) الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة 2011، تمكنت من نقل صورة المجتمع كما يراها ذوو الاحتياجات الخاصة. فالرواية تحكي حكاية فتاة مصابة بشلل الأطفال منذ الأشهر الأولى في حياتها عبر تقنية مبتكرة في السرد.

تقع الرواية في خمس عشرة وحدة سردية سمتها الروائية (أيادي)، تبدأ من (اليد الأولى) وتنتهي عند (اليد الأخيرة). وفي كل يد من هذه الأيادي نجد أنفسنا أمام تجربة مؤلمة أخرى من تجارب البطلة عبر راوٍ غريب هو كرسي المعاقين الذي أنطقته الروائية ليسرد حكاية بطلتها من خلال وضع أيادي الناس الذين يدفعونه في بؤرة السرد:

((أياد كثيرة تتلمسني كل يوم، تحركني كيفما تشاء، تبعثرني في اتجاهات لا أرغبها، وأخرى أريدها، بعض من تلك الأيادي لها تحنان غريب يشبه يشبه حنو الأم على ولدها...... بعد لحظات أياد أخرى تتمنى لو تلقي بي بعيدا يبتلعني الشارع....))

تصور الرواية معاناة البطلة التي لا نعرف اسمها على امتداد الرواية، بأسلوب يجبرك على الشعور بالألم والغثيان:

((مائة وتسعة هذا ليس رقم شارع... ليس برقم منزل ... إنما هو عدد درجات السلم التي تهبط عليها وتصعدها كل يوم لفترة طويلة..))

في الذهاب إلى المدرسة يحملها والدها وفي العودة والدتها غير أنها عندما كبرت لم يعد بالإمكان فعل ذلك:

((... بعد فترة من الخوف ليست طويلة أخذت تلقي بنفسها كالكرة على درجات السلم بعد أن تكون فعلت نفس الشيء مع تلك العكاكيز التي تستند عليها.))

لكن هذا لا يمكن أن تفعله في رحلة العودة التي كانت فيها مضطرة لقضاء أكثر من ساعتين من المعاناة لصعود السلم:

((دائما رحلة العودة أصعب... في يدها قفاز جلدي يحميها من البصاق وفضلات القطط التي لعبت دورا كبيرا في أن تعيد الصعود أكثر من مرة.. تبدأ بوضع قدمها اليمنى على أول درجات السلم بمساعدة يدها اليمنى ثم تستند بكلتا يديها على الدرجة التالية وتجر القدم الأخرى وهكذا إلى أن تنتهي، تصر درجات السلم على مصافحة شعرها على الرغم من تلك الشرائط التي تقيده في شكل ضفيرتين تعقدهما أمها من أسفل حتى لا يتسخا من السلم (يحزنها هذا كثيرا) لكنها لا تجرؤ أبدا على البوح به....))

وعلى امتداد النص تظهر شخصيات كثيرة من غير أن نعرف عنها سوى نظرة البطلة إليه، فترسم صورة جلية للمجتمع كما هو في عين البطلة، كلمة قد يقولها عابر وهو لا يعلم ماذا تخلف في نفسها:

((في إحدى المرات أوقفها ضابط مرور لمخالفتها وضع الحزام، حين أشارت إلى العلامة على زجاج السيارة ردد مبتسما:

الحلو ميكملش.))

ومرة أوقفت سيارتها أمام باب المستشفى وحين  فأراد الضابط سحب رخصتها غير أنه اعتذر وانسحب عندما عرف حالتها لكن أحدهم يعترض لسحب رخصته هو وترك رخصتها ((رد عليه الضابط بصوت سمعه كل المارة:

دي عاجزة يا أعمى.))

وفي أحيان أخرى تتزامن الكلمة مع دفعة من القسوة المؤلمة، كما في صورة ذلك الرجل الذي اعتادت أن يصلح لها (الجهاز التعويضي) عندما يصيبه الخلل، ((آخر المرات التي عاتبته فيها على التأخير ثار في وجهها ورد عليها بوقاحة يعهدها منه كل المتعاملين معه:

هو أنا معنديش عاجزين غيرك))

وحين ترى البطلة طفلة تشبهها في مركز العلاج الطبيعي وتنتبه إلى مكابرتها ((تمنت أن تحتضن تلك الفتاة، تحدثها أن الحزن حق مكفول للجميع، ترجوها أن لا تكرر نفس الخطأ، لا داعي لإظهار قوة ليست موجودة بالفعل.))

تحاول البطلة على لسان الكرسي المتحرك أن تُسقِط تلك الأقنعة التي يضعها بعض الناس ليصنعوا لأنفسهم هالة كاذبة.. كما تصف أولئك (المثقفين) الذين استقلت معهم (الأوتوبيس) عند دعوتها إلى معرض الكتاب:

((في الطريق يتحدثون عن البنية الأساسية والنقد والفن التشكيلي والإيديولوجيا وأشياء من هذا القبيل حين يتحدثون عن التراث يلوون ألسنتهم بلغة أجنبية تعكس دوشة بداخلهم وهذا العصر المتخبط الذي يعيشونه.))

تثير الرواية واحدة من المشكلات الفنية التي نواجهها في أعمال أدبية كثيرة اليوم، هي مشكلة التجنيس. فقد تعاملنا مع النص على أنه رواية لأن الكاتبة وضعت لها هذا التصنيف على الغلاف. بينما يوصلنا تشريح النص إلى أنه نص عصي على التجنيس والتصنيف. فكل وحدة سردية من وحداتها يمكن أن تكون قصة قصيرة قائمة برأسها، ولأن كلا منها تتحدث عن ذات الشخصية وعلى لسان الراوي ذاته يمكن أن ننظر إلى العمل على أنه متوالية قصصية. بينما تستوقفنا تلك اللغة الأقرب إلى لغة البوح الشعري عن مثل هذا التصنيف بما فيها من انزياحات وغلبة للجملة الإنشائية على الجملة الخبرية فيها. فضلا عن أن جمل الاستفهام والجمل المنفية التي تغلب على العمل ابتداء من العنوان تجعل النص صرخة احتجاج عالية في وجه مجتمع بليد عاجز عن فهم بطلة الرواية.

وحين يفرغ القارئ من قراءة النص يجد نفسه يعرف تاريخ البطلة الباطني والظاهري، وربما يشعر بالذنب لأنه يستطيع المشي على قدمين. غير أنه لو عاد إلى النص مرة أخرى لاستغرب تلك النتيجة، فليس هناك من خط زمني واضح يعرض فيه ذلك التاريخ. إذ أن تلك الوحدات السردية كانت تهشم زمن السرد كما لو كانت تريد تدميره فعلا. (اليد الأولى) و(اليد الأخيرة) فقط يمكن أن نفهم مكان وجودهما في النص، فالأولى ولادة والأخيرة موت. أما ما بقي من الوحدات فيمكنك أن تغير أماكنها كيفما تريد من غير أن تتأثر الحكاية، فقط صحح رقم (اليد). وهكذا بنيت الرواية بما يشبه (المسبحة)، لكل (خرزة) منها تسلسل محدد، لكنها لو انفرطت ونظمت من جديد فمن المؤكد أن تسلسل (الخرزات) سيتغير، بينما هناك (خرزة) واحدة لابد أن تكون في مكانها السابق وهي (الخرزة) الطولية التي تحدد بداية المسبحة ونهايتها.

كل وحدة سردية في الرواية يتصرف فيها السارد بحرية مطلقة، ويتنقل في الأزمنة والأمكنة بتداع حر تماما. فقد يروي حدثا جرى للبطلة في شبابها ثم يربطه بحدث آخر في طفولتها.

كُتِب النص كله بلغة يمكن أن توصف بأنها شفاهية، فالسارد يحدث القارئ وكأنه في مواجهته مستخدما لغة (الكلام) لا لغة الكتابة، فتراه يستدرك ويتراجع ويصحح وكثيرا ما تشير نقاط متتالية تفصل بين الكلمات إلى مدة صمت:

((تحدثني عن أيوب .. يأتيها كل يوم يأخذها منيالى عالم تحب البقاء فيه، تعود إلي منه راضية مرضية أغار منه لكنه في النهاية ينجح في أن أحبه لأنه يجعلها سعيدة أو ربما ...... الاستسلام (لا أعلم).))

وقد يبدو عنوان النص قبل قراءة الكتاب بلا معنى، فمن الطبيعي أن (الموتى لا يرتدون الأحذية)، العنوان هو الآخر تركيب شفاهي، فلا يمكن أن تدرك إحالاته إلا إذا قرأته وأنت تشدد على كلمة (الموتى)، فهو ليس جملة خبرية، بل جملة قصر وحصر، فكأن معناه هو (الموتى فقط لا يلبسون الأحذية) . وهذه الدلالة تحيل على موضعين في الرواية، فأما أولهما ففي منتصفها بالضبط، يقول الكرسي المتحرك الذي يسرد الرواية:

((بداخلها مرآة لا ترى إلا عجلاتي، الناس ينظرون إلي وكأني خلقت لحمل الموتى فيحملون لي كراهية وهي تراني أحمل الموتى للحياة فتحب أوردتي المعدنية وتبثني حياة.))

ولا فرق كبير هنا بين نظرتها ونظرة الناس، فالاثنان اتفقا على أن (المعاق) ميت.

وأما الموضع الثاني الذي يحيل عليه العنوان فيصادفنا قرب النهاية:

((لم تر نفسها أبدا تسير على قدمين، حتى في أحلام اليقظة.

لم تر نفسها ترتدي حذاء أنيقا.

كثيرا ما تقف أمام محلات الأحذية لتنتقي أجملها لصديقاتها.

هي فقط لم تشتر أيا منها.))

 

هكذا يكون العنوان مفهوما، فلأنها لا تحتاج أن تضع حذاء في قدميها فهي ميتة. وهنا تكمن المفارقة في قلب ركني جملة العنوان ليكون المبتدأ خبرا والخبر مبتدأ؛ الذين لا يرتدون الأحذية أموات.

رواية (وفاء بغدادي) تجمع إلى كونها نص يحتفي باللغة اعتمادا على تقنيات متقدمة، كونه عمل إنساني صادم، يستفز إنسانية القارئ ويجبره على مراجعة بناء ذاته.

 

0 التعليقات:

إرسال تعليق