السبت، 29 أغسطس 2015

حوار ساخن.. قصة ونقد

نشرت هذه  القصة في جريدة الزمان العراقية ونشرت دراستي لها في الجريدة نفسها بعد خمسة أيام


حوار ساخن
خسين عبد الخضر

ثم . . أنت قد لا تدركين ما اقوله لك . لا شك أنك عشت حياة مثالية ، ربما تعتبرينها أنت عادية ، فقد عشت في كنف أبوين حانيين يخافان عليك ، يتعهدانك إذا مرضت ، وربما يقصان عليك قصص قبل النوم ، لا شك أنك كنت تمتلكين سريرك الخاص ، وربما غرفتك الخاصة ، وترتدين ملابسك الخاصة ، لذلك أنا اشك في أنك تستطيعين مجرد تصور ما سوف احكيه لك . اقول لك أن الحياة ، للأسف ، لم تكن دوما كما تتصورين ، علي الأقل نمط حياتي ومن يشاكلني يعتبر غريبا عنك . لكن ، بما أنك تصرين علي معرفة سبب انكسار الحزن في عينيّ ،ّ فأنا مضطر إلي الاستجابة لك .

كانت المشكلة في أن أبي مازال حيا ، فلو أنه كان ميتا ، لم تكن الأمور لتأخذ هذا النحو من السوء ، لكنه كان حيا ، وقد عني ذلك أنني قد حرمت سلفا من حق التمتع برعاية أب حي واهتمامه . لم نكن فقراء ، ولكننا بحاجة ماسة للمال ، وعلي الدوام . ولأنني الطفل المرهف ، وربما كنت اتمتع بنوع من الحصانة يجعل أمي مطمئنة وهي تبعث بي إلي السوق ، فقد تركت حق الاستمتاع بلعب الطفولة لبقية أخوتي ، لم اكن اكبرهم سنا ، إذا كان هذا ما يرد في ذهنك ، إلا أنني كنت الاكثر نشاطا ، واستعدادا للتضحية بمشاهدة افلام كارتون .

كنت افتح عينيّ كل صباح لأري صينية ( الطاطلي ) في زاوية الغرفة ترمقني بخبث . تخلصني أمي من حالة الكسل بغسل وجهي ، وترديد بعض كلمات التشجيع عليّ ، كما لو أنها تهمس بتعويذة سحرية ، فتجبرني علي النهوض ، وتناول الإفطار . هل سبق لك أن غسلت وجهك وأنت علي فراشك ؟ بعد لحظات قصيرة ، اشرب فيها استكان الشاي ، واقرض نصف ( صمونة ) تكون والدتي قد وضعت الصينية علي رأسي ، وتطلقني إلي الشارع ، فيما لا يزال أبي وأخوتي يغطون في نومهم . يداعب اجفاني الصحو ما أن تلمس قدماي اسفلت الشارع . اسير حتي السوق ، وأنا اهتف بلا هدف محدد : " طاطلي ، طاطلي " . وفي مكان محدد ، اخترته بعفوية مطلقة ، انزل الصينية من علي رأسي ، وأقف . استمر في النداء علي بضاعتي . يشتري مني بعض الناس . يكتفي بعضهم بقطعة واحدة ، وقد لا يكتفي آخرون بأكثر من قطعة . كنت اشعر بالفرح وأنا اسمع صليل قطع النقود المعدنية في جيبي ، لكن ذلك لا يستمر لفترة طويلة . بعد ساعة أو اكثر بقليل ، يتجاهلني السوق ، ولا يعود أحد يشعر بوجودي ، اشعر أنني اقذف صوتي في الفراغ . انظر إلي صينيتي ، فأري أنها مازالت مليئة بكرات الطاطلي الملتمعة تحت وهج الشمس ، وهي ترشح الشيرة بكسل إلي قاعدة الصينية . هل تعتقدين أني كنت استطيع مد يدي إلي واحدة ؟ أبدا . كانت أمي تعدها جيدا ، ولن يفلح أي عذر في حال اكتشاف فقدان واحدة .

استمرت في نبش الأرض برجلها ، ومتابعتي باهتمام ، وكأنها تتسلي بسماع حكاية من حكايات جدتها . كان بريق الذهول لا ينفك يتراقص في عينيها ، ويغازل اجفانها فرح بريء . إنها لا تريد أن تقاطعني حتي بسؤال ، فتضطرني إلي توهم اسئلة والاجابة عليها . سحبت سيجارة أخري من العلبة ، اشعلتها من طرف السيجارة السابقة ، وأكملت :

ومع ذلك ، فقد كنت اخترع تسليتي الخاصة في كل يوم ، أمارس بعض الالعاب وأنا اقبع في مكاني ، أطارد الوجوه المتشابهة مثلا ، أو احاول تقدير اعمار بعض الناس الذين يلفتون انتباهي ، وربما أحاول في بعض الأحيان تخمين المهن ، فوجوه الناس ، كما كنت اعتقد ، تكشف عن مهنهم ، وإذا ما كانوا قساة أم طيبون . عندما يقترب وقت الضحي ، يكون الوقوف في مكاني غير مجد . احمل صينيتي وأدور بها في السوق رافعا ندائي ، وربما اتجاوز السوق إلي شوارع أخري مكتضة بالناس ، فأبيع بعضا من بضاعتي . ما لا أدركه هو سر فرحي عندما يشتري مني الآخرون مع أن فلسا واحدا لن ينزل في جيبي ، فأمي دائما ما تبدأ بأخذ المال ، ثم تحسب القطع المتبقية ، لمعرفة ما إذا كنت قد اكلت منها واحدة أو أنني صرفت بعض المال علي ملذاتي الخاصة . قد يكون من الطبيعي أن يحدث ذلك لو أن الآخرين احتفظوا بألسنتهم في أفواههم ، لكن هناك بعض الناس يجعلون الأمر يبدو قاسيا جدا ، فربما كنت استطيع تجاوزالأمر بسبب طفولتي ، أو لأنني احظي ببعض الرفاق في السوق ، لكن تلك الكلمات التي اسمعها ، وتكون موجهة لي شخصيا ، تفاقم من شعوري بأنني اعيش في المكان الخطأ . اعرف أنك لم تختبري هذا الشعور ولو لمرة واحدة ، بل ربما كنت تظنين الآن بأن الطاطلي هو غير الداطلي مع أنهما شيء واحد ، لكن اهلك كانوا يمنعونك من تناوله خوفا عليك ، ويجلبون لك حلوي معلبة ، وهذا كما ترين ، لا يشعرني نحوك بأية ضغينة . قلت أن بعض الناس كانوا يجعلون الأمر أسوأ عندما يقولون : " يالجمال هذا الطفل ، وقسوة قلب أمه ، ألا تخاف علي طفل جميل كهذا من العمل في السوق . " وقد تقول لي أخري : " لو كنت ولدي لما تركتك تغادر البيت . " عبارات من هذا القبيل كنت اسمعها دائما ، فقد كنت جميلا بشكل يلفت النظر .

بشكل لا اتمكن من ادراكه حضرت العبارة في رأسي ، وأرادت أن تفلت بنفسها إلي سمعها ، فتوقفت . دفعة واحدة تدفقت الذكري من جديد ، وأخذ الجرح في اعماق روحي ينز بدم طازج . تطوحت روحي في داخلي مثل جريح ينزف كل دمائه علي الأرض ، وتصاعد في رأسي لحن لكمان حزين . مددت يدا مرتجفة ، تناولت كأسا ، ورشفت علي مهل ، رشفات قصيرة متتابعة ، احسست بها ، وهي تنزل إلي أحشائي . لكنها بقيت مخلصة لصمتها ، الذهول يشد ملامحها إلي بعضها ، بدت مهتمة تماما ، إلا أنني اشك في أنها كانت متعاطفة معي اكثر من تعاطفها مع شخص في قصة ، ولست اعرف إذا ما كانت تدرك علي نحو واضح حرارة الألم الذي يشعر به طفل مهمل ، أو رجل يتذكر طفولته المهملة ، لكن ذلك بدي لي في هذه اللحظة غير مهم ، لابد أن يموت ذلك الجريح النازف ويستريح ، سأطرد صوت الكمان من رأسي ، واتركه يموت بهدوء ، قبل أن تنزل دموعي المتأرجحة .

ربما كنت تظنين أنك استمعت إلي أسوأ ما يمكن أن يحدث في حياة طفل حتي الآن . يكفي أن تتصوري حرمانه من اللعب كي تتفجر اقصي طاقتك علي الغضب . أليس جريمة سيدتي أن يحرم طفل من اللعب ؟ حسنا ، إلا أنه في هذه الحياة يمكنك توقع حدوث الأسوأ دائما ، كما يمكنك توقع الأفضل ، لكن ما حصل معي هو الأسوأ . لقد اصطدمت ذات يوم ، وفي طريق عودتي إلي البيت ، بشخص ساه ، فوقع ما تبقي من الطاطلي علي الأرض . مضي الرجل في سبيله ، وتركني أواجه المصيبة وحدي . غزت صور العقوبات المختلفة رأسي ، فسري الذعر في نفسي ، ومن اجل هذا الخطأ تخيلت أمي وهي تمارس جميع عقوباتها عليّ بالتسلسل . جلست حائرا ، وضعت يدي علي رأسي ، يمكنك أن تلاحظي أنني افعل ذلك حتي الآن عندما تصادفني مشكلة . قطع الطاطلي تلوثت ، لا يمكنني بيعها الآن ، أو العودة بها إلي البيت ، العقوبة تنتظرني ، سوف أضرب وأهان ، سوف تنقض أمي بعضة قوية علي ذراعي ، سوف تصفعني ، وتشتمني ، ولن تتوقف حتي تتعب . هل سبق لك أن عضتك أمك ؟ لا ، أنا امزح ، أمك امرأة عاقلة ، ثم لماذا تعضك ، وأنت لم تسقطي الطاطلي علي الأرض ؟ .

تمنيت لو أنها ابتسمت للنكتة ، لو أنها قامت بأي ردة فعل ، لكنت وجدت فرصة لتغيير الموضوع ، ولم اضطر لسماع انين الرجل الجريح ، غير أنها لم تمنحني أية فرصة للتراجع .

ورغم أن ذلك قد وقع فعلا ، وبشكل اقسي مما تخيلته ، إذ يمكنني أن أريك أثر العضة علي ذراعي الآن ، لكن شرودي منعني من الالتفات إلي الحدث الأسواء . لقد كان هناك مصور صادف مروره لحظة جلوسي علي الرصيف أضع يدا علي رأسي ، فيما قطع الطاطلي علي الأرض ، والصينية في اليد الأخري فارغة ، اعجبه المشهد فالتقط صورة لي دون أن أدري ، ولم اكن لأدري لولا أنني زرت معرضا قبل أيام ، فوجدتها هناك . توقفت طويلا أمام الصورة . نظرت إلي الطفل الحائر ، وتسللت إلي ذاكرتي كل أحداث ذلك اليوم . وددت أن اصرخ ، لكنني بكيت فقط . نسيت أنني اقف في معرض مكتظ بالزائرين ، فقدت كل احساس بالآخرين ، فارتفع صوت نشيجي ، ورحت العن أيام طفولتي . إنني طفل جميل جدا ، ولو كنت ابن غير هؤلاء الناس لعشت حياة أخري ، ونعمت بالرفاهية مثلك ، ربما حظيت ، علي الأقل بأب يتعب من اجلي وأم تخاف عليّ من نظرات الناس ، فلا تسمح لي بالخروج إلي الشارع . هل تعرفين انك محظوظة جدا بأبويك ؟ بعد تمخض دموعي عن ولادة حزن قديم ، تغلغل عميقا في نفسي ، انتابني شعور بالغضب . كيف سمح هذا المصور اللعين لنفسه بالتلاعب بصورتي ، ووضع طفلا آخر في محلي ، ربما كان ابنه هو الذي لم يعرف مرارة حمل صينية الطاطلي والدوران بها في الصباح ؟ قصدته وصرخت بوجهه : " أنت مصور مزيف . كيف سمحت لنفسك بتشويه صورتي ؟ " وقبل أن تتحرر الكذبة من فمه ، وجهت ضربتي إلي عينه مباشرة ، وفجرت دمه . هل تظنين أن القاضي سيبرؤني ويحاكمه هو لتزييفه صورتي ؟ هل تعتقدين أن الناس يمكن أن يكونوا عادلين ولو لمرة واحدة ؟ مالك لا تتفوهين ولو بكلمة ؟ لم أنت صامتة ؟ أنا لا اقص عليك حكاية قبل النوم ، قولي شيئا . استمرت معتصمة بصمتها ، ربما كانت متعاطفة معي في داخلها ، ربما كانت ستقول اشياء كثيرة لو أنها تمكنت من الكلام ، لكنها اكتفت بالنظر إليّ فقط . لم تقل ولو كلمة واحدة لتطفئ القليل من الغضب المتوقد في صدري . وفي لحظة جنون حملتها في كفي ، وصرخت فيها أن تتكلم ، لكنها راحت تقاوم قبضتي بدفعات ضعيفة من أرجلها الخشنة . اطبقت قبضتي عليها اكثر ، فشعرت باحشائها تفيض في كفي .
 
 
 

سحر النهاية في القصة القصيرة

د.ثائر العذاري

في عددها الصادر في 25/8/2009 نشرت جريدة الزمان العراقية في طبعتها الدولية قصة قصيرة للقاص  حسين عبد الخضر بعنوان (حوار ساخن)، التي تمثل نموذجا واضحا لمقولة أن القصة القصيرة نص مبني من أجل نهايته، فهو، بكل تفاصيله يتسارع نحوها ويشير اليها، ومع ذلك يجب أن تكون النهاية مدهشة وغير متوقعة، تبدأ القصة بهذه العبارة:
((ثم . . أنت قد لا تدركين ما اقوله لك . لا شك أنك عشت حياة مثالية ، ربما تعتبرينها أنت عادية ، فقد عشت في كنف أبوين حانيين يخافان عليك ، يتعهدانك إذا مرضت ، وربما يقصان عليك قصص قبل النوم ، لا شك أنك كنت تمتلكين سريرك الخاص ، وربما غرفتك الخاصة ، وترتدين ملابسك الخاصة ، لذلك أنا اشك في أنك تستطيعين مجرد تصور ما سوف احكيه لك .))
يبدو من هذه البداية أن الخطاب السردي هنا مبني بصيغة المخاطب، وأن المتكلم سيعرض حكاية فقره وحرمانه في مقابل حياة هذه الفتاة المخاطبة التي يبدو أنها من عائلة موسرة. فيبدأ فعلا بإخبارها عن طفولته المتعبة واضطراره أن يعيل عائلته وهو لما يزل طفلا، حين يحمل (صينية الطاطلي) باكرا متوجها إلى السوق. غير أننا نصطدم بعد حين بعبارة:
((استمرت في نبش الأرض برجلها ، ومتابعتي باهتمام ، وكأنها تتسلي بسماع حكاية من حكايات جدتها .))
هنا تغيرت صيغة الخطاب وانتقلت من كونها خطابا مباشرا مع شخصية أخرى في مجرى السرد إلى إخبار عن حدث في الماضي، فالقاص هنا يتصرف ككاتب السيناريو، ويضع تعليقات معترضة تؤدي وظيفة توصيف الحركة، إذ يعود بعد هذه العبارة إلى حواره الساخن، ليكمل حكاية طفولته البائسة:
((.......عندما يقترب وقت الضحي ، يكون الوقوف في مكاني غير مجد . احمل صينيتي وأدور بها في السوق رافعا ندائي ، وربما اتجاوز السوق إلي شوارع أخري مكتضة بالناس ، فأبيع بعضا من بضاعتي .))

 
مثل تلك الشروح السيناريوية ترد مرات أخرى في النص مثل:
((لكنها بقيت مخلصة لصمتها ، الذهول يشد ملامحها إلي بعضها ، بدت مهتمة تماما)).
وهو من خلالها يحدد انطباعات القارئ عن شخصية الفتاة التي يخاطبها، فهي صامتة صمتا يوحي باهتمامها من غير أن تقوم بأي رد فعل ملموس.
((تمنيت لو أنها ابتسمت للنكتة ، لو أنها قامت بأي ردة فعل ، لكنت وجدت فرصة لتغيير الموضوع ، ولم اضطر لسماع انين الرجل الجريح ، غير أنها لم تمنحني أية فرصة للتراجع.))
ثمة إصرار في هذه التعليقات على التركيز على فكرة الصمت وانعدام ظهور أية ردة فعل حركية. ويستمر الراوي في بوحه هذا حتى يصل به الضيق بصمتها حدا لا يطاق لتأتي عيارة النهاية الصادمة التي ستجعلنا نعيد قراءة القصة لفهمها بما يتوافق مع هذه العبارة:
((استمرت معتصمة بصمتها ، ربما كانت متعاطفة معي في داخلها ، ربما كانت ستقول اشياء كثيرة لو أنها تمكنت من الكلام ، لكنها اكتفت بالنظر إليّ فقط . لم تقل ولو كلمة واحدة لتطفئ القليل من الغضب المتوقد في صدري . وفي لحظة جنون حملتها في كفي ، وصرخت فيها أن تتكلم ، لكنها راحت تقاوم قبضتي بدفعات ضعيفة من أرجلها الخشنة . اطبقت قبضتي عليها اكثر ، فشعرت باحشائها تفيض في كفي.))
إن عبارات (حملتها في كفي) و(تقاوم قبضتي بدفعات ضعيفة من أرجلها) و(شعرت بأحشائها تفيض في كفي) ستجبرنا على إعادة القراءة لتفسير القصة بما يعطي معنى معقولا لهذه العبارات, فكيف حملها في كفه؟ وكيف احتواها كفه بحيث كان يشعر بدفعات أرجلها الضعيفة؟ ولماذا أرجلها خشنة وهي تلك الرقيقة التي أسبغ عليها صفات الرفاهية؟ ولماذا (تفيض) أحشاؤها وليس أية كلمة معتادة أخرى؟
بكلمات قليلة في عبارة النهاية, يضعنا القاص في موقف نشعر فيه أننا خُدِعنا، فهذه التساؤلات التي ستقفز إلى أذهاننا تدل على أن الراوي أوهمنا بوجود فتاة مخاطبة، وهي لاشك فتاة بشرية ولا شيء آخر بما قدم من صفاتها في الفقرات الأولى للقصة.
ثمة جملة قصيرة مفتاحية ترد في وسط القصة:
((وتصاعد في رأسي لحن لكمان حزين . مددت يدا مرتجفة ، تناولت كأسا ، ورشفت علي مهل ، رشفات قصيرة متتابعة ، احسست بها ، وهي تنزل إلي أحشائي . لكنها بقيت مخلصة لصمتها)).
غير أن القارئ لن يتنبه إلى أهميتها إلا بعد أن تصدمه النهاية، فما هي هذه التي (احسست بها ، وهي تنزل إلي أحشائي)؟
ثمة اختلاط كبير هنا بين ما شربه من الكأس وبين فتاته التي يخاطبها، فعندما تناول كأسا أحس بها تنزل إلى أحشائه. وطبعا لا يمكننا أن نقول أن الفتاة هي محتويات الكأس بسبب الأوصاف التي وصفها بها والأفعال التي أسندها اليها.
هذا الخلط بين الشراب والفتاة هو مفتاح فهم قصة (حوار ساخن)، فالقصة محض حوار داخلي في وعي الراوي يمر به في لحظة سكر، أما الفتاة فهي ليست الا صورة غلى علبة المشروب الذي يتعاطاه، والدفعات الضعيفة من أرجلها هي حركة السائل داخل العلبة الناتج عن حركة يده الهستيرية، وأرجلها خشنة لأنها قرب حافة العلبة من أسفل، وهكذا تكون أحشاؤها سائلة تفيض في كفه الذي استطاع أن يحملها ويحتويها ويضغطها بقوة.
إنها نهاية تحويلية، تؤدي إلى بناء فهم جديد للنص، غير الفهم الذي تبنيه عملية القراءة تدريجيا، وهذا الأسلوب الذي يستدرج القارئ إلى فخ نهاية غير متوقعة يمكن أن يكون عنصرا جماليا صادما يولد أكبر قدر ممكن من الدهشة اللازمة لنهاية قصة قصيرة.


 
 
 

 

0 التعليقات:

إرسال تعليق